عن حرية التعبير
تدور أحداثه حول ماهية الأمر الذي يحتجزك، يستهلكك ومن ثم يستنزفك تدريجياً. إنه وبكل اختصار مسألة "العضوية في المجتمع وأن تكون مجرد فردٍ من أفراده". ذلك المعشر الذي لم تعد قادراً على الانخراط فيه أكثر. أحاطك بطقوس، قيدك داخل كابوس عنوانه أنصت لما يقال والتزم بالقرار، فمن أنت حتى تعبث مع سلاطين القرار؟
في مجتمع جائر، صفة تطلق على أفعال أفراده، يحظى صانع الرأي برتبة الشخص الملعون ومعدوم المكانة. عقوبة يسلطها أفراد المجتمع على من ارتآه خائنا للرأي المشترك. يقمع بمجرد أن يبلور نقده. يهمش لأنه حاول قطع عزفهم الموحد. فهو إذن شخص غير مرغوب فيه، لم يعد مرحبًا به داخل تخوم هذا المجتمع. إذ إن قرار إقصائه قد ختم وتم تعليله بأنه عبث بميثاق الطقوس، إنها "رغبة النفوس". ومن الغريب وغير المنطقي بل ولعل من التناقض، أن يتم تجسيد وإعمال ذلك القرار داخل مجتمع يعتد ويطالب بالحريات في إطار نظام ديمقراطي.
فلكأن هذا العقاب القاسي والمرير المسلط من قبل أفراد المجتمع يحمل في طياته ملامح التهديد لكل صانع رأي "جديد". الأمر الذي يجعل من طرح سؤال عن أي حرية تعبير نتحدث؟ مشروعًا. هل هي تلك الحرية التي حددها وقيدها المجتمع بنواميسه الخاصة، القمعية والإقصائية؟ أليست تلك الحرية التي يتحدث عنها الجميع وتركسها الخطابات الاجتماعية والثقافية دون الاكتراث إلى مدى ضمان حسن ممارستها؟ أليست تلك الحرية التي استنجدت بها إرادة الشعب يومًا؟ ألم تكن حرية التعبير هي الملاذ والخلاص فعلاً؟ أليست تلك الحرية التي كرسها وجسد علويتها النص الدستوري دوماً؟
لكن أمام هذا الإقصاء والتكميم من قبل إرادة الحشود، ألا تعد علوية حرية التعبير، في هذه الحالة، مجرد معطى مفرغ ومغيب الدلالات والمعاني؟ إذن فما هي الحرية التي قصدتموها؟ لعلكم تتحدثون عن تلك الحرية التي لا تمس من موقفكم الموحد والمشترك؟ بمعنى تلك الحرية التي تتجلى وتمارس لحظة غياب رأي يعبر عن رغبة ووحدة الجموع. أي أنك تستطيع تقديم موقفك طالما أن ذلك الموضوع المراد الخوض فيه لم يشغل بعد أو لم يحظ باهتمام الحشود. فالمجال لك، طالما أنك وحيد في مجال فريد. ينتفي رأيك، فكرك وموقفك كلما اقترب منك ذلك الشيء الموحد. فليس بالأمر الجليل قمع وجهة نظر منطقية وموضوعية. إذ إنه لا وجود لمفهوم "السجال فكري"، بل إنها فقط مرحلة تطبيق عقوبة الإخماد والاضطهاد تجاه فكر اختار أحيانا الحياد وأحيانا أخرى الانفراد.
وضمن هذا السياق، فإن هذا الأسلوب القمعي لحرية التعبير الذي ينهل من إرادة المجتمع، من العوامل الفاعلة والمساهمة في بناء أعرق الديكتاتوريات وأعظمها ظلما واستبدادا، الأمر الذي من شأنه أن يؤسس لاستمراريتها وديمومتها. إذ إن هذه الاضطهادات التي يمارسها المجتمع تجاه "صناع الرأي والنقد"، تعد من الأعمال المحبذة والمرغوب فيها من قبل الأشخاص المعنيين بالحكم.
وبالتالي، فإن رغبة النفوس، إرادة الحشود، تؤسس لبدء عملية التدمير الذاتي لمنظومة الحقوق والحريات من خلال تهميش حرية التعبير. تلك الحرية التي لطالما مثلت الحصن الذي يحمي المجتمع من بروز الأنظمة الاستبدادية والأداة المناسبة التي من شأنها أن تهدد عرش الجائر. فالثورات، الاحتجاجات والتظاهرات تعد أرقى تجليات حرية التعبير، لولاها لما حفلنا "بالحرية وجوهرها".
إن أعمال التخلص من كل صانع رأي أو موقف، تعد بمثابة المسمار الذي استقر في نعش صرح المجتمع.