عن اليمين القومي الأوروبي

29 مايو 2019
+ الخط -
على الرغم من أن الأحزاب المؤيدة لفكرة الوحدة الأوروبية ظلت مسيطرةً على البرلمان الأوروبي، إلا أن التقدّم الكبير الذي أحرزته قوى اليمين القومي والشعبوي، من جهة، والليبراليون والخضر، من جهة أخرى، في الانتخابات الأوروبية أخيرا، يكشف عن عمق الانقسام الذي باتت تعيشه أوروبا اليوم، بعد مرور أكثر من ستة عقود على ترجمة فكرة الاندماج الأوروبي، باعتبارها حلا نهائيا للصراعات التي نشبت في أوروبا، بسبب صعود القوميات وتبلور الهويات الوطنية التي بدأت بعد حرب الثلاثين عاما (1618ـ 1648)، وبلغت ذروتها مع الوحدتين، الألمانية والإيطالية، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
ومع اضمحلال الأحزاب التقليدية من يمين ويسار الوسط، باتت أوروبا اليوم أمام ثنائية واضحة، يقع على طرفها الأول تيار ليبرالي معولم، يرى أن لا حل للتناقضات الأوروبية، ولا استمرار لدولة الرفاه والاستقرار، إلا بتجاوز الفكرة القومية المسؤولة عن ثلاث حروبٍ مدمرةٍ عاشتها أوروبا بسبب التنافس القومي الألماني - الفرنسي تحديدا بين 1870ـ 1945، وتعميق التوجه نحو اتحاد ليبرالي فوق – قومي، تضمحل فيه الهويات القومية الضيقة لصالح هويةٍ أوروبية أرحب وأكثر تسامحا. على الطرف المقابل، تيار قومي متشدّد يسعى إلى إعادة الاعتبار للهويات القومية، والسياسات الوطنية، واسترداد القرار الذي هيمنت عليه المفوضية الأوروبية في بروكسل، ابتداء من فرض الضرائب، وتحديد أوجه الصرف والإنفاق العام، وصولا إلى أنظمة المرور والعبور، وغيرها من السياسات الاقتصادية والاجتماعية. هذان الانقسام والاستقطاب تدل عليهما نسب المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي التي وصلت، هذه المرة، إلى مستويات غير مشهودة منذ توقيع اتفاقية ماستريخت التي نشأ بموجبها الاتحاد الأوروبي عام 1992.
قرار الناخب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل ثلاث سنوات لم يكن، إذاً، على ما دلت عليه هذه الانتخابات، سوى بداية تصدّع المشروع أو الحلم الأوروبي، ذلك أن النتائج التي حصدها اليمين الإيطالي بزعامة وزير الداخلية ورئيس رابطة الشمال (الليغا) ماتيو سالفيني، والمجري بزعامة رئيس الوزراء فكتور أوربان، والفرنسي بزعامة مارين لوبان، تدل على أن الظاهرة تنتقل من الأطراف (بريطانيا) إلى القلب الأوروبي (mainland)، وتنتشر فيه بسرعة وقوة.
المفزع في الأمر أن الصحوة القومية في أوروبا تتلبّسها أو تواكبها نزعات شعبوية طاغية. والشعبوية مكوّن أصيل في النزعات القومية، لكنها بتجاوزها مستوى معينا، تجعلها أقرب ما تكون إلى الفاشية، وهذا ما يثير القلق أوروبيا اليوم، ويعزّز المخاوف، ليس فقط من انهيار الفكرة الأوروبية، بل عودة الصراع والعنف إلى المجتمعات الأوروبية.
كيف تنعكس هذه الظاهرة علينا، وعلى قضايانا العربية؟ سوف تنعكس من زاويتين: الأولى، تظهر في طريقة التعامل مع المهاجرين واللاجئين العرب في الغرب، والذين ازدادت أعدادهم في العقد الأخير، نتيجة هروب الملايين من الظلم والقتل والاستبداد في بلادنا. الثانية، تظهر في العلاقات القوية الناشئة بين اليمين القومي الأوروبي وإسرائيل.
اللافت أنه، وبمقدار ما يترافق صعود اليمين القومي مع تنامي مظاهر معاداة السامية في أوروبا، يزداد انبهار هذا اليمين بإسرائيل، والتي باتت تمثل، في نظره، نموذجا للدولة القومية الصافية عرقيا. لا بل باتت إسرائيل تمثل بالنسبة إلى اليمين القومي الأوروبي ما كانت تمثله كوبا لقوى اليسار الأوروبي في الستينيات والسبعينيات.
وفي الجوهر، ليست الصهيونية إلا من مظاهر الصعود القومي الذي ساد وسط أوروبا وشرقها تحديدا بين الحربين العالميتين. وما يجذب أحزاب اليمين القومي في أوروبا اليوم لإسرائيل فكرة أن الأخيرة تمثل أوضح تجسيد لفكرة الديموقراطية الإثنية أو العرقية، أي دولة اليهود حصرا، وهي الفكرة التي تخاطب هوى اليمين القومي الأوروبي في إقامة دولة العرق الخالص بدون مهاجرين، وبدون لاجئين، وبدون ثقافات دخيلة. وإسرائيل باتت تعتمد كليا تقريبا على دعم قوى هذا اليمين في مواجهة معسكر اليسار الأوروبي الذي يأخذ مواقف داعمة تجاه قضية الشعب الفلسطيني، والمعسكر الليبرالي الأوروبي الذي يزيد من انتقاداته لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان. وهناك تقاطعات أخرى عديدة بين الطرفين.
دلالات