عن المشهد السياسي المغربي

16 مايو 2015
+ الخط -
حالة التردي الشديدة التي بلغها مستوى الخطاب السياسي في المغرب تستوجب وقفة حقيقية، وتتطلب معالجة دقيقة، حتى لا تنطفئ شعلة الأمل الباهتة التي مازالت تمنح بعض الثقة لنسبة من المغاربة في الممارسة السياسية في بلادنا، خصوصا وأن مظاهر هذا التردي أصبحت واضحة، ومتداولة على نطاق واسع، بعدما تحولت أغلب الجلسات البرلمانية منذ انتخابات 25 نوفمبر/تشرين ثاني 2011 إلى ما يشبه السوق، أو السيرك، بسبب سيادة لغة السب والتهريج، بالواضح حينا وبالمرموز أحيانا، وبأسلوب يكاد يفرغ السياسة من محتواها، ويرسخ في الوعي الشعبي قناعة مفادها: "لا تفتش عن الأخلاق في السياسة".
اعتدنا على توصيف هذا السلوك الذي ينهل مفرداته من قاموس الشتائم ولغة الشارع بالشعبوية، غير أن التدقيق في المفهوم يجعلنا نستنتج أن ما يعرفه المشهد السياسي المغربي لا علاقة له بالشعبوية، ولا يرقى إلى مستواها باعتبارها خطابا سياسياً، له أدواته وآلياته الفكرية، كما هو الشأن في عدد من دول أميركا اللاتينية مثلاً، إذ لا مجال للمقارنة بين السلوك السياسي الذي يصدر عن رئيس الحكومة المغربية وعدد من زعماء وقادة الأحزاب المحسوبة على المعارضة أيضا بشعبوية الرئيس الأورغوياني السابق، خوسيه موخيكا، الذي كان يوصف في أثناء ولايته الرئاسية بأنه أفقر رئيس في العالم، ذلك أن الخطاب الشعبوي لا يعني الحديث بلغة المتداول اليومي البسيط والمبتذل أحيانا (استخدام مفردات الزنقة) فقط، بل يشير في العمق إلى الاصطفاف بجانب الشعب، وخصوصا في الدفاع عن الطبقات المسحوقة، بالأفعال لا بالأقوال فحسب، حتى لا يتحول المواطن إلى مجرد كائن انتخابي، يتم استدراجه في كل محطة انتخابية لإضفاء المشروعية على ممارسة سياسية، لا تنتج إلا الانحطاط والتفاهة.
في أوروبا أيضاً، تنامى المد الشعبوي بشكل ملحوظ في عدد من الدول، فظهرت، في السنوات الأخيرة، أحزاب جديدة بدأت تفرض نفسها في الساحة، وتسحب البساط تدريجيا من الأحزاب الكبرى التقليدية التي اعتادت على التناوب في تسيير الشأن العام، منذ وقت طويل، وهو ما حدث في اليونان، مثلا، حيث نجح حزب يوصف بالشعبوية هو سيريزا في الفوز في انتخابات يناير/كانون أول الماضي. والنموذج الأكثر بروزا في السياق الأوروبي، الآن، يقدمه حزب بوديموس، اليساري الإسباني الذي استطاع، في وقت وجيز، أن يحظى بشعبية جارفة وتعاطف كبير في إسبانيا، وأصبح رقما صعبا في الخريطة الحزبية هناك، بعدما نجح في فرض نفسه بديلاً محتملاً في وجدان الناخبين الإسبان، ممن ليسوا راضين على الأداء الحكومي هناك، لخلخلة المشهد السياسي الذي ظل يتقاسمه الحزبان الكبيران، الشعبي والاشتراكي، وهو ما بدا واضحا عندما نجحت الحركة الاحتجاجية التي عرفتها البلاد في ماي 2011 في استقطاب عشرات آلاف المواطنين، رفضاً لسياسات التقشف التي تنتهجها حكومة "راخوي"، وهي المظاهرات التي شكلت النواة الأولى التي مهدت لظهور الحزب الجديد. ويعرف زعيم هذا الحزب (الثوري)، بابلو إغليسياس، على نطاق واسع بهجومه الحاد والعنيف على حكومة بلاده، ورفض سياساتها ومقاومتها بلغة يفهمها الشارع، ويستوعبها جيداً، ويتناغم معها أيضا، لكنها لغة بعيدة عن قاموس الهجاء ومفردات داحس والغبراء التي يعج بها المشهد السياسي المغربي، في البرلمان وفي التصريحات الإعلامية وفي التجمعات الحزبية.
إن انحطاط الخطاب السياسي الذي تنتجه أحزاب مغربية يبعث على الأسى والخوف من المستقبل، لكنه، أيضاً، يثير الشك والدهشة. فهل ما يحدث هو نتيجة طبيعية مرتبطة بسياق معين يفرض نفسه في هذه المرحلة، أم أنه سلوك مقصود يُراد منه إبعاد المغاربة عن السياسة والنفور منها؟ لهذا السؤال ما يبرره، ففي وقت يتحدث فيه جميع الفاعلون الحزبيون عن ضرورة تخليق السلوك السياسي، وتجديد النخب السياسية وتشجيع الشباب على الالتحاق بالأحزاب، يبدو واقع الفعل غير منسجم بتاتا مع ما هو معلن، فعلى الرغم من أن المغرب قضع أشواطا مهمة في تجاوز ممارسات الماضي التي كانت خلالها كلمة "سياسة" كافية لتثير الرعب والخوف في النفوس، بسبب التضييق الشديد على الحريات، فإن ما نشهده اليوم هو محاولة جديدة لإجبار المغاربة على "العزوف السياسي"، لكن الأمر يتم، هذه المرة، بوسائل وأدوات جديدة، يبدو أنها تحصد يوماً بعد آخر نجاحات مبهرة، فالثقة في السياسة والسياسيين وصلت إلى الحضيض، والنخب المثقفة التي يعول عليها لتحقيق التغيير وبعث الروح في الأداء الحزبي لا تجد مكاناً لها بين أغلب القيادات الحزبية، ولا تأثير لها في صنع القرار الحزبي الذي يعاني من التبعية والوصاية، ولا يحضر إلا ديكوراً للتزيين.
هذه الأحزاب التي لا يهمها إلا الحصول على أصوات انتخابية تمنحها المشروعية وتكرس الواقع نفسه وتنتج الممارسات نفسها. واستدعاؤها المستمر اسم الملك وإقحامه في حروبها الكلامية، كما تعبر عنه التصريحات والأفعال الصادرة عن بعض قادتها: (حكومة ومعارضة صاحب الجلالة – الملك راض عن أداء الحكومة – طلب التحكيم الملكي....)، هذا الإقحام، إذن، دليل على انحسار الأفق الفكري والإيديولوجي لهذه الأحزاب، خصوصا التي توصف بالكبيرة، سواء في الحكومة أو المعارضة. وهي بذلك لا تخدم المغرب بأي حال، ولا تساهم في الدفع بعجلة الديموقراطية التي يبدو أنها مازالت متوقفة في لحظة الانتقال التي طالت كثيرا. وتلك نتيجة طبيعية مادام المشهد الحزبي لا ينتج خطابا سياسيا إصلاحيا ديموقراطيا وجريئاً بالقدر الذي يسعى إلى نيل الترضيات، وينتج ظواهر صوتية تتنافس في السوقية والبهرجة.

avata
avata
محمد مغوتي (المغرب)
محمد مغوتي (المغرب)