عن السعادة التي تلمسها فاتن .. وأراها أنا

11 يناير 2015
ستعرف فيروز قيمة صوتها إذا رأت ابتسامة فاتن
+ الخط -
أرسم ملامح وجهي بأصابعي قبل أن أنام. شاهدتني أمي مرة، وضحكت. بدوت لها كمن يتأكد أنّ كل شيء في مكانه. لم أكن أعد ملامحي، ولا أتأكد من مكانها الصحيح. تعودت لمس وجهي منذ سنة تقريباً.

عودتني علی ذلك فاتن، الفتاة الكفيفة التي عشت معها سنة كاملة. لم تكن تلك أفضل سنواتي صراحة، ولم أكن متحمسة أبداً في بداية ذلك الفصل الدراسي. تعلمت من فاتن الكثير، واكتشفت حاسة اللمس معها.

تلمس فاتن كل شيء. تمرّر أصابعها علی الحائط والدرابزين والسرير والطاولة والمقاعد. ترسم الصحن الفارغ بيديها قبل أن تملأه بالطعام، ثم تلمس طعامها أيضاً. كوّنَت علاقة حميمة مع جميع الأشياء حولها من خلال يديها. تحضن ثيابها قبل أن ترتديها. تعرف نوع الثياب ولونها من ملمسها.

لم أعرف قبل فاتن، أنّ العلاقة مع ثيابنا تتخطی مسألة الذوق فقط. صرت أقلّدها. أمرّر يدي علی كل شيء مثلها. أتلمّس الحائط والثياب والصحون الفارغة. فهمت حينها أنّ النظر لا يعطي صورة كاملة للأشياء أبداً. لا تكتمل الصور في رأسنا إلا باللمس.

أستمتع بعلاقة فاتن مع الموسيقی. الموسيقی حياتها. تری فاتن من خلال الموسيقی. تستعملها لتكتمل الصورة في رأسها. تستمع إلی فيروز وتبتسم. تبتسم بشغف. تبتسم لأنّها تری أشياء كثيرة لا نراها نحن.

تقضي الساعات هي وفيروز فقط. يضحكان، يبكيان سوية. قالت لي يوماً: "لو ما في موسيقی وفيروز كنت بموت". لن تعرف فيروز قيمة صوتها يوماً، إلا إذا شاهدت ابتسامة فاتن وهي تسمعها. فاتن لا تتذوق الموسيقى، بل تلمسها.

لم أر فاتن تلمس وجهها أبداً. جلست قربها يوماً، وسألتها أن تمرر يديها على وجهها. خافت قبل أن تتلمس وجهها بحذر. أخذت وقتها كثيراً، وأبطأت بشكل واضح عند الذقن تحديداً. قالت إنّها لم تلمس ما يشبه الذقن من قبل. ومررت أصابعها في شعرها، شعرة شعرة.

لم تشعر فاتن في الكثير من الأحيان بوجودي، فكنت أجلس علی سريري حوالى الأربع ساعات وأنا أراقبها. لم تكن فاتن جميلة بنظري، ولكن هل يمكن أن يكون هناك أي مشهد أجمل في تلك اللحظة؟ فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، ترسم ملامحها بأصابعها للمرة الأولى، وتكمل صورة وجهها في رأسها. لا أظنّ أنّ هناك شيئاً أجمل.

لم أكن رسمت وجهي بأصابعي أنا أيضاً قبل تلك الليلة. أنا التي اشتكت أمي مراراً من هوسي بالنظر إلى المرآة، لم أحفظ صورة وجهي بعد، كما فعلت فاتن. فهمت خوف فاتن عندما لمست وجهي أول مرة. هو الخوف من اكتمال الصورة. نحن الذين لم نتعود إلا على الصور الناقصة. أفكر دائماً أنني أريد لمس وجوه من أحبهم. أخاف أن أفقدهم، وتتلاشى صور وجوههم سريعاً في ذاكرتي لأنني لم ألمسها. لأنني لم أكمل صورهم.

مضت السنة وأنا على سريري، أراقب فاتن التي تستمع إلى فيروز وأغنية "وحدن" تحديداً، وتلمس وجهها، وتبتسم. ألمس وجهي أنا أيضاً وأبتسم. أبتسم للسعادة التي تلمسها فاتن وأراها أنا.
دلالات
المساهمون