27 أكتوبر 2024
عن السردية القُطبية
ربّما لم يعرف التاريخ الثقافي العربي الحديث مُفكّراً، كان ولازال، محوراً لحالة جدلية طويلة ممتدّة، مثل سيّد قطب الذي احتلّ، بشخصه وبفكره، مساحة كبيرة في مسيرة الظاهرة الإسلامية، وشكّل نقطة تحوّل بالغة الخطورة في مسارها، فعلى الرغم من مرور نصف قرن على نهايته المأساوية، إلا أنه حاضر دوماً عند الحديث عن الظاهرة الإسلامية، إذ يمثّل ركيزة كبيرة في البنية الفكرية لجماعات الإسلام السياسي، على اختلاف مشاربها، والعجيب أن نجده مُتمركزاً على "التخوم الحدودية" بين الحركات الإسلامية على اختلاف أنواعها، حيث تتنازع نسبه كل من الحركات السلمية السياسية التي قبلت بالديمقراطية، مروراً بالسلفية العلمية مع تحفظّاتها عليه، ونهاية بالسلفية الجهادية والجماعات التكفيرية التي تتخذّ العنف منهجاً.
حفلت حياة سيّد قطب بمنحنياتٍ، وتعرّجاتٍ، وتحوّلات فكرية. وعليه، فقد اتسمت غالبية الكتابات التي تناولته بالسقوط في التمجيد أو الشيطنة، فالرجل إمّا "شهيد" و"مُفكّر ربّاني" عند أنصاره أو "سيّد التكفير" و"قطب الإرهاب" عند خصومه، في ثنائيةٍ ضديّة تعكس مدى سخونة الحالة الجدلية حوله.
وتُعدّ فصول العلاقة المعقّدة التي جمعت بين سيّد قطب وانقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، والتي تطوّرت في سياق درامي من التحالف إلى الصدام، مثالاً بارزاً لإشكالية العلاقة بين دولة يوليو 1952 على اختلاف نُسخها، وتنظيمات الإسلام السياسي وجماعاته، والتي تدور في الحلقة المفرغة نفسها منذ أكثر من 60 عاماً. فقد كان قطب من أشدّ المُتحمّسين لانقلاب 1952، حتى أنه كتب مقالاً في 8 أغسطس/ آب 1952 في مجلة روزاليوسف، بعنوان :"إذا لم تكن ثورة فحاكموا محمد نجيب"، طالب فيه بقيام "ديكتاتورية نظيفة"، وبامتداد التطهير من الأحزاب إلى إلغاء دستور 1923، واختير مستشاراً لمجلس قيادة الثورة للشؤون الثقافية، ثمّ عُيّن سكرتيراً عاماً مساعداً لهيئة التحرير في مطلع 1953. بعدها انضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، حتى كان الصدام المدوي بين الجماعة والنظام الجديد على جولتيْن، في 1954 و1965 صدر خلاله حكم بالسجن بحقّ سيّد قطب في جولة 1954، ثمّ أُفرِجَ عنه في 1964 قبل عودته إلى السجن في قضية 1965التي قادته إلى نهايته المأساوية.
تعد لحظة إعدام الدولة الناصرية سيّد قطب مفصلية فارقة في التاريخ السياسي والثقافي العربي الحديث، فقد كان لهذه الخطوة "الاستئصالية" بالغة الخشونة عواقب وخيمة مازالت جارية، عندما دفعت شريحةً من جماعات الإسلام السياسي إلى النزوع نحو الراديكالية الفكرية، وتبنّي العنف والإرهاب. فقد كان من شأن المناخ القمعي الاستئصالي أن يُفرز السردية القطبية التي هي مزيج من نزعة قطعية دوغماتيزمية، تبتعد عن الواقع محلّقة في الطوباوية، مصبوبة في قوالب أدبية بلاغية، تستثير العواطف الحماسية، وجاءت النهاية المأساوية لصاحبها، لتُضفي عليها مزيداً من الهالات العاطفية.
على خلفية الصدام الكبير بين النظام الناصري وجماعة الإخوان المسلمين في 1965، قدّم سيد قطب أطروحته الفكرية شديدة الخطورة في كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، والتي أتت على خلاف الخطّ العام لمنهج الحركات الإصلاحية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، فقد قامت الأطروحة القطبية بالأساس على أرضية "العقيدة" (لا "الشريعة")، عبر اعتماده مبدأ "الحاكمية"، حيث رأى قطب أن الخلل الذي يعيشه العالم الإسلامي "عقدي" بالدرجة الأولى، ويعود إلى عدم فهم المسلمين العقيدة الإسلامية بشكل صحيح، واستسلامهم للتصورّات "الجاهلية" المفروضة عليهم، تحت وطأة الأمر الواقع، ما يُحتّم على "الجماعة المؤمنة" القيام بـ"عزلة شعورية" عن الواقع الجاهلي، تقوم على "الاستعلاء الإيماني" عن قيم "الجاهلية" المحيطة بها، برفضها وعدم الخضوع لضغوطها وتصورّاتها، وضرورة "المفاصلة" الكاملة عن الأنظمة "الطاغوتية"، من أجل تربية "جيل قرآني" جديد، أو "الطليعة المسلمة" التي يجب عزلها وتربيتها تربية خاصة، عبر نهلها من المعين الذي نهل منه الرعيل الأول في صدر الإسلام، لتكون تلك "الطليعة المسلمة" بمثابة النواة "الحركية" التي تحمل راية الدين للمجتمع المسلم، لتُعيد الأمّة إلى فهم الإسلام بشكله الصافي الصحيح عبر إعادة بعث "العقيدة" الإسلامية، كما كانت في صورتها الأولى النقية، وبتحقيق الحاكمية لله، بعد إزالة التصوّرات الاعتقادية الجاهلية التي لحقت بمفهوم التوحيد السليم (!).
الخطورة الشديدة في تلك الأطروحة أنها أسبغت على المجتمع، بصورة ضمنية، وصف"الجاهلية"، وأكّدت على ضرورة المجانبة والمفاصلة معه، ما فتح الباب واسعاً أمام كارثة "التكفير"، كما أنها نزعت الشرعية بشكل كامل عن الدولة الوطنية الحديثة وصوّرتها على أنها من سمات "الجاهلية"، معتمدة مبدأ "الأمميّة" القطبية، عبر إرساء مبدأ (جنسية المسلم عقيدته).
مثّل طرح سيد قطب المنبع الفكري الرئيسي الذي خرجت منه كل الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرّفة، التي ظهرت خلال نصف القرن المنصرم، واتخذت من العنف منهجاً وسبيلاً، فيُعدّ "معالم في الطريق" تحديداً بمثابة الذخيرة الفكرية التكفيرية، أو "المانيفيستو" التكفيري الذي انطلقت منه الجماعات التكفيرية، أو ما يسمى "الإسلام الراديكالي".
السردية القطبية مثال بارز للخطاب المُغلَق ذي الاتجاه الأحادي الغارق في نزعة صفرية، في صدامه مع الواقع "الجاهلي" (فلا صلح مع الجاهلية، ولا أنصاف حلول معها، ولا تلبّس ولا امتزاج، وليس وراء الإيمان إلا الكفر) الذي يدور في نسق فكري مغلق، وينطلق من مسلّماتٍ مطلقةٍ لا تقبل النقاش، ليواصل سيره في خطّ مستقيم، بهدف إعادة صياغة الواقع، والمستقبل، والتاريخ، على أساسٍ طوباوي، من أجل تحطيم المملكة الأرضية البشرية، ذات الطابع الطاغوتي التي تقوم على تشريع البشر، وبناء المملكة السماوية الإلهية، ذات الطابع الشرعي الربّاني التي تقوم على التشريع الإلهي.
يمهّد انغلاق الخطاب القطبي الطريق أمام ممارسة العنف، كونه يجنح إلى الثنائيات المغلقة ذات الطابع الصراعي الذي لابد أن ينتهي بإجهاز أحد الطرفين على الآخر، والقضاء عليه، مثل (الحق - الباطل) و(الإيمان - الكفر) و(الإسلام – الجاهلية) و(الله – الطاغوت)، وهو وليد مناخٍ قمعي مأزومٍ، كما أنه خطاب "محنوي" بامتياز، ولد في ظروف استثنائية، ولا ينتشر إلا في سياق موضوعي مأزوم مُغلق. وبصفةٍ عامة، لم تُولد الأفكار المنحرفة والمتطرّفة إلا من رحم السجون، ولم تخرج إلا تحت وطأة القمع والتعاطي الاستئصالي، فقد جاءت السردية القطبية ردَّ فعلٍ فكريٍ عنيف، في مواجهة دولة بوليسية "تنّينية"، تغوّلت على المجتمع، وسحقته تحت مطرقتها، بالإضافة إلى تعاطيها مع خصمها بطريقة استئصالية، فهناك حالة من "التغذية المرتدة" بين التطرّف والتطرّف المضاد، فلا يوجد تيار يجنح تلقائياً إلى التطرّف، وإنّما يرجع الأمر إلى الظرف التاريخي والواقع المحيط، فمن شأن مناخ الانفتاح القائم على الاحتواء والحوار إنعاش عوامل الانفتاح والاعتدال وتنشيطها، وإخماد عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطها. وفي المقابل، يأتي مناخ الانغلاق القائم على القمع والرغبة في الاستئصال، ليكون من شأنه إنعاش عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطها، وإخماد عوامل الانفتاح والاعتدال وتثبيطها. ومن شأن القمع دفع الطرف المقموع، إلى الانغلاق الفكري، وتعزيز مشاعر العزلة داخله، والانكفاء على الذات، لمواجهة الخطر الاستئصالي الذي يهدّد وجوده.
مشكلة "القطبيين" أنهم توّقفوا عند كتابات سيّد قطب، وأخرجوها من ظروفها الموضوعية، وفصلوها عن سياقها الزماني والمكاني، وفقاً لما يُعرف أصولياً بـ "استصحاب الحال"، وخلطوا بين النهاية الملحمية لصاحبها الذي دفع حياته ثمناً لفكره وأفكارها التي تحتمل الصواب أو الخطأ، شأنها شأن أي إنتاج فكري، معتقدين أنها خرجت في لحظةٍ "نورانية"، منحتها "قدسية" خاصة، حصّنتها من الردّ والنقد. وفي هذا السياق، تعامل الإسلاميون "الحركيون" تعاملاً خاطئاً مع السردية القطبية، تغلّبت فيه العاطفة على العقل، وطغت خلاله الاعتبارات الإنسانية على العوامل الفكرية، فلم يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه أفكارها، ولم يفككوها وينقدوها جذرياً، عبر تبنّي قطيعة معرفية بشكل كامل معها، وإنما اتخذوا موقفاً "ملتبساً" تجاهها، بهدف استبقائها ذخيرة مثالية، للحظات "المحنوية"، فسردية "المحنة والابتلاء" تستدعي السردية "القطبية"، فهما صنوان لا يفترقان.
السردية القطبية جزءٌ من المشكلة، ولم ولن تكون جزءاً من الحلّ، وتمثّل مجرّد استثناءٍ خارجٍ عن الخطّ العام للحركات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي، وهي تنتشر وتنتعش في لحظات الانغلاق "المحنوية"، وتنحسر وتنكمش في فترات الانفتاح، إلا أنّها ستظلّ حاضرةً بشكل أو بآخر في الفضاء الإسلامي، طالما ظلّت الأزمة الممتدة منذ عقود بين الدولة المصرية والإسلاميين، تراوح مكانها بين الهُدنات والصدامات، من دون حدوث (تسوية تاريخية)، وليس مجرّد مصالحة، ذات أبعاد سياسية، وثقافية، واجتماعية، وحضارية، تحمل إجاباتٍ لأسئلة بنيوية كبيرة عن الهوية الحضارية، والموقف من التغريب، وتذويب الذات الحضارية، ومدى حضور الدين في المجال العام، والصراع التاريخي بين الوافد والموروث، وإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي... كلها أسئلة مازالت من دون إجاباتٍ منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة.
حفلت حياة سيّد قطب بمنحنياتٍ، وتعرّجاتٍ، وتحوّلات فكرية. وعليه، فقد اتسمت غالبية الكتابات التي تناولته بالسقوط في التمجيد أو الشيطنة، فالرجل إمّا "شهيد" و"مُفكّر ربّاني" عند أنصاره أو "سيّد التكفير" و"قطب الإرهاب" عند خصومه، في ثنائيةٍ ضديّة تعكس مدى سخونة الحالة الجدلية حوله.
وتُعدّ فصول العلاقة المعقّدة التي جمعت بين سيّد قطب وانقلاب 23 يوليو 1952 في مصر، والتي تطوّرت في سياق درامي من التحالف إلى الصدام، مثالاً بارزاً لإشكالية العلاقة بين دولة يوليو 1952 على اختلاف نُسخها، وتنظيمات الإسلام السياسي وجماعاته، والتي تدور في الحلقة المفرغة نفسها منذ أكثر من 60 عاماً. فقد كان قطب من أشدّ المُتحمّسين لانقلاب 1952، حتى أنه كتب مقالاً في 8 أغسطس/ آب 1952 في مجلة روزاليوسف، بعنوان :"إذا لم تكن ثورة فحاكموا محمد نجيب"، طالب فيه بقيام "ديكتاتورية نظيفة"، وبامتداد التطهير من الأحزاب إلى إلغاء دستور 1923، واختير مستشاراً لمجلس قيادة الثورة للشؤون الثقافية، ثمّ عُيّن سكرتيراً عاماً مساعداً لهيئة التحرير في مطلع 1953. بعدها انضمّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، حتى كان الصدام المدوي بين الجماعة والنظام الجديد على جولتيْن، في 1954 و1965 صدر خلاله حكم بالسجن بحقّ سيّد قطب في جولة 1954، ثمّ أُفرِجَ عنه في 1964 قبل عودته إلى السجن في قضية 1965التي قادته إلى نهايته المأساوية.
تعد لحظة إعدام الدولة الناصرية سيّد قطب مفصلية فارقة في التاريخ السياسي والثقافي العربي الحديث، فقد كان لهذه الخطوة "الاستئصالية" بالغة الخشونة عواقب وخيمة مازالت جارية، عندما دفعت شريحةً من جماعات الإسلام السياسي إلى النزوع نحو الراديكالية الفكرية، وتبنّي العنف والإرهاب. فقد كان من شأن المناخ القمعي الاستئصالي أن يُفرز السردية القطبية التي هي مزيج من نزعة قطعية دوغماتيزمية، تبتعد عن الواقع محلّقة في الطوباوية، مصبوبة في قوالب أدبية بلاغية، تستثير العواطف الحماسية، وجاءت النهاية المأساوية لصاحبها، لتُضفي عليها مزيداً من الهالات العاطفية.
على خلفية الصدام الكبير بين النظام الناصري وجماعة الإخوان المسلمين في 1965، قدّم سيد قطب أطروحته الفكرية شديدة الخطورة في كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، والتي أتت على خلاف الخطّ العام لمنهج الحركات الإصلاحية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، فقد قامت الأطروحة القطبية بالأساس على أرضية "العقيدة" (لا "الشريعة")، عبر اعتماده مبدأ "الحاكمية"، حيث رأى قطب أن الخلل الذي يعيشه العالم الإسلامي "عقدي" بالدرجة الأولى، ويعود إلى عدم فهم المسلمين العقيدة الإسلامية بشكل صحيح، واستسلامهم للتصورّات "الجاهلية" المفروضة عليهم، تحت وطأة الأمر الواقع، ما يُحتّم على "الجماعة المؤمنة" القيام بـ"عزلة شعورية" عن الواقع الجاهلي، تقوم على "الاستعلاء الإيماني" عن قيم "الجاهلية" المحيطة بها، برفضها وعدم الخضوع لضغوطها وتصورّاتها، وضرورة "المفاصلة" الكاملة عن الأنظمة "الطاغوتية"، من أجل تربية "جيل قرآني" جديد، أو "الطليعة المسلمة" التي يجب عزلها وتربيتها تربية خاصة، عبر نهلها من المعين الذي نهل منه الرعيل الأول في صدر الإسلام، لتكون تلك "الطليعة المسلمة" بمثابة النواة "الحركية" التي تحمل راية الدين للمجتمع المسلم، لتُعيد الأمّة إلى فهم الإسلام بشكله الصافي الصحيح عبر إعادة بعث "العقيدة" الإسلامية، كما كانت في صورتها الأولى النقية، وبتحقيق الحاكمية لله، بعد إزالة التصوّرات الاعتقادية الجاهلية التي لحقت بمفهوم التوحيد السليم (!).
الخطورة الشديدة في تلك الأطروحة أنها أسبغت على المجتمع، بصورة ضمنية، وصف"الجاهلية"، وأكّدت على ضرورة المجانبة والمفاصلة معه، ما فتح الباب واسعاً أمام كارثة "التكفير"، كما أنها نزعت الشرعية بشكل كامل عن الدولة الوطنية الحديثة وصوّرتها على أنها من سمات "الجاهلية"، معتمدة مبدأ "الأمميّة" القطبية، عبر إرساء مبدأ (جنسية المسلم عقيدته).
مثّل طرح سيد قطب المنبع الفكري الرئيسي الذي خرجت منه كل الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرّفة، التي ظهرت خلال نصف القرن المنصرم، واتخذت من العنف منهجاً وسبيلاً، فيُعدّ "معالم في الطريق" تحديداً بمثابة الذخيرة الفكرية التكفيرية، أو "المانيفيستو" التكفيري الذي انطلقت منه الجماعات التكفيرية، أو ما يسمى "الإسلام الراديكالي".
السردية القطبية مثال بارز للخطاب المُغلَق ذي الاتجاه الأحادي الغارق في نزعة صفرية، في صدامه مع الواقع "الجاهلي" (فلا صلح مع الجاهلية، ولا أنصاف حلول معها، ولا تلبّس ولا امتزاج، وليس وراء الإيمان إلا الكفر) الذي يدور في نسق فكري مغلق، وينطلق من مسلّماتٍ مطلقةٍ لا تقبل النقاش، ليواصل سيره في خطّ مستقيم، بهدف إعادة صياغة الواقع، والمستقبل، والتاريخ، على أساسٍ طوباوي، من أجل تحطيم المملكة الأرضية البشرية، ذات الطابع الطاغوتي التي تقوم على تشريع البشر، وبناء المملكة السماوية الإلهية، ذات الطابع الشرعي الربّاني التي تقوم على التشريع الإلهي.
يمهّد انغلاق الخطاب القطبي الطريق أمام ممارسة العنف، كونه يجنح إلى الثنائيات المغلقة ذات الطابع الصراعي الذي لابد أن ينتهي بإجهاز أحد الطرفين على الآخر، والقضاء عليه، مثل (الحق - الباطل) و(الإيمان - الكفر) و(الإسلام – الجاهلية) و(الله – الطاغوت)، وهو وليد مناخٍ قمعي مأزومٍ، كما أنه خطاب "محنوي" بامتياز، ولد في ظروف استثنائية، ولا ينتشر إلا في سياق موضوعي مأزوم مُغلق. وبصفةٍ عامة، لم تُولد الأفكار المنحرفة والمتطرّفة إلا من رحم السجون، ولم تخرج إلا تحت وطأة القمع والتعاطي الاستئصالي، فقد جاءت السردية القطبية ردَّ فعلٍ فكريٍ عنيف، في مواجهة دولة بوليسية "تنّينية"، تغوّلت على المجتمع، وسحقته تحت مطرقتها، بالإضافة إلى تعاطيها مع خصمها بطريقة استئصالية، فهناك حالة من "التغذية المرتدة" بين التطرّف والتطرّف المضاد، فلا يوجد تيار يجنح تلقائياً إلى التطرّف، وإنّما يرجع الأمر إلى الظرف التاريخي والواقع المحيط، فمن شأن مناخ الانفتاح القائم على الاحتواء والحوار إنعاش عوامل الانفتاح والاعتدال وتنشيطها، وإخماد عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطها. وفي المقابل، يأتي مناخ الانغلاق القائم على القمع والرغبة في الاستئصال، ليكون من شأنه إنعاش عوامل التطرّف والانعزال وتنشيطها، وإخماد عوامل الانفتاح والاعتدال وتثبيطها. ومن شأن القمع دفع الطرف المقموع، إلى الانغلاق الفكري، وتعزيز مشاعر العزلة داخله، والانكفاء على الذات، لمواجهة الخطر الاستئصالي الذي يهدّد وجوده.
مشكلة "القطبيين" أنهم توّقفوا عند كتابات سيّد قطب، وأخرجوها من ظروفها الموضوعية، وفصلوها عن سياقها الزماني والمكاني، وفقاً لما يُعرف أصولياً بـ "استصحاب الحال"، وخلطوا بين النهاية الملحمية لصاحبها الذي دفع حياته ثمناً لفكره وأفكارها التي تحتمل الصواب أو الخطأ، شأنها شأن أي إنتاج فكري، معتقدين أنها خرجت في لحظةٍ "نورانية"، منحتها "قدسية" خاصة، حصّنتها من الردّ والنقد. وفي هذا السياق، تعامل الإسلاميون "الحركيون" تعاملاً خاطئاً مع السردية القطبية، تغلّبت فيه العاطفة على العقل، وطغت خلاله الاعتبارات الإنسانية على العوامل الفكرية، فلم يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه أفكارها، ولم يفككوها وينقدوها جذرياً، عبر تبنّي قطيعة معرفية بشكل كامل معها، وإنما اتخذوا موقفاً "ملتبساً" تجاهها، بهدف استبقائها ذخيرة مثالية، للحظات "المحنوية"، فسردية "المحنة والابتلاء" تستدعي السردية "القطبية"، فهما صنوان لا يفترقان.
السردية القطبية جزءٌ من المشكلة، ولم ولن تكون جزءاً من الحلّ، وتمثّل مجرّد استثناءٍ خارجٍ عن الخطّ العام للحركات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي، وهي تنتشر وتنتعش في لحظات الانغلاق "المحنوية"، وتنحسر وتنكمش في فترات الانفتاح، إلا أنّها ستظلّ حاضرةً بشكل أو بآخر في الفضاء الإسلامي، طالما ظلّت الأزمة الممتدة منذ عقود بين الدولة المصرية والإسلاميين، تراوح مكانها بين الهُدنات والصدامات، من دون حدوث (تسوية تاريخية)، وليس مجرّد مصالحة، ذات أبعاد سياسية، وثقافية، واجتماعية، وحضارية، تحمل إجاباتٍ لأسئلة بنيوية كبيرة عن الهوية الحضارية، والموقف من التغريب، وتذويب الذات الحضارية، ومدى حضور الدين في المجال العام، والصراع التاريخي بين الوافد والموروث، وإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي... كلها أسئلة مازالت من دون إجاباتٍ منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة.