عن التجربة البرازيلية

08 مايو 2015

تظاهرة في ساوباولو ضد سياسات الإنفاق الحكومي (25يناير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

استمر الحكم العسكري الشمولي في البرازيل أكثر من 21 عاماً، وشهد العديد من الاضطرابات وعمليات القمع والاعتقال واغتيالات عديدة، ومئات من أحكام الإعدام والسجن والاختفاء القسري، ولم تتأسس الحياة السياسية إلا بعد دستور عام 1988. ولكن، لم يستقر الأمر في البداية، حيث تورط أول رئيس منتخب في البرازيل في قضايا فساد عديدة، مما أجبره على الاستقالة بعد احتجاجات عديدة عام 1992. وشهدت البرازيل فترة من الاستقرار بعد ذلك. ولكن، مع استمرار الفقر والجهل وزيادة معدلات التضخم، إلى أن تم انتخاب لولا دي سيلفا رئيساً للبلاد في 2002، بعد حوالى عشر سنوات من الإصلاح السياسي التدريجي، وتنمية الأحزاب وتقويتها، وقيام تحالفات معارضة قوية، كانت مؤهلة لتولي المسؤولية بعد ذلك. واستطاعت البرازيل أن تنتقل إلى الديمقراطية الحقيقية، والاستقرار السياسي الذي أدى إلى الاستقرار الاقتصادي، بعد فترة طويلة من الحكم العسكري، ثم فترة انتقالية، تم فيها تأسيس حياة حزبية وحريات سياسية بشكل سليم، وليس صورياً.

وكانت تجربة الرئيس لولا دي سيلفا ملفتة للأنظار، وما زال يُضرب بها المثل في أن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما طريق التقدم والنهضة والاستقرار، فقد تسلم لولا دي سلفيا دولة مثقلة بديون خارجية، أكثر من 260 مليار دولار في عام 2002، بخلاف الديون الداخلية، وعلى الرغم من سياسات التقشف، وعلى الرغم من إجراءات صندوق النقد الدولي، استطاع الاقتصاد البرازيلي أن ينمو بمعدل 5% ابتداء من 2004 إلى أن وصل إلى 6% عام 2010. ولكن، مع نمو الاقتصاد، من الطبيعي أن يرافقه انخفاض في الدخل وزيادة نسبة الفقر وزيادة الفجوة بين الطبقات، وهو ما جعل لولا دي سيلفا يبدأ فوراً في برامج مكثفة ومتتالية للتنمية ومحاربة الفقر، بالإضافة إلى برامج مكافحة الفساد وبرامج الشفافية والحكم الرشيد والمشاركة الشعبية. وأسهم في تشجيع الصناعة البرازيلية وزيادة الصادرات وتقليل عجز الموازنة وسداد الديون الخارجية، بالإضافة إلى السوق المشتركة لدول أميركا الجنوبية، والتي قللت من اعتماد تلك الدول على صندوق النقد.

داخلياً، كانت له عدة إجراءات مهمة، مثل قانون ضبط الأجور على أساس نسبتي التنمية والتضخم معاً، مما يعني ارتفاع الأجور أكثر من سرعة ارتفاع الأسعار. وكذلك سياسات توسيع السوق الداخلية، وتوجيه الميزانية نحو إيجاد فرص عمل، وإعادة توزيع الثروة وتنمية المرافق العمومية وإصلاحها. واستطاعت البرازيل، في عهد لولا دي سيلفا، أن تقلص خدمة الدين، وتزيد النفقات العامة والبرامج الاجتماعية، وأصبحت الطبقات الأكثر فقراً هي الأكثر استفادة من دون تهديد القطاع الاستثماري وأصحاب الثروات، فكانت الضرائب التصاعدية والإجراءات الاجتماعية تساعد الفقراء، وتقلل الفجوة الطبقية، وفي الوقت نفسه، مع ضرر أقل لأصحاب رؤوس الأموال.

ولكن، في الفترة الأخيرة، لا تستطيع رئيسة البرازيل الحالية، دلما روسيف، أن تحقق ما فعله لولا دي سيلفا، فقد تبنّت إجراءات معاكسة أدت إلى تناقص التصنيع وسياسات أخرى تؤدي إلى تقليل دور الدولة وإلغاء البرامج الاجتماعية وبرامج مكافحة الفقر، مما أدى إلى زيادة الاحتجاجات ضدها في الأسابيع الأخيرة من قوى اليمين واليسار معاً، بعد الفقدان التدريجي لمكتسبات الرئيس السابق، لولا دي سيلفا، بسبب سياسات النيوليبرالية، التي تتبعها ديلما روسيف، الرئيسة الحالية للبرازيل.

كيف نتخيل مستقبل مصر، ونحن نعيش في جو من القمع والاستبداد وتكميم الأفواه وغياب الشفافية وغياب المشاركة الشعبية وغياب الحكم الرشيد؟ كيف نتخيل مستقبل مصر، مع سياسات السيسي المعتمدة على استمرار الفساد وتشجيع رأسمالية المحاسيب وزيادة الفجوة بين الطبقات وزيادة الفقر والمعاناة على المواطن؟ كيف نتخيل مصر، ونحن نغوص في مستنقع الكراهية والتخوين والقمع والاستبداد والظلم والقهر؟ الفقراء يزدادون فقراً مع السيسي، الذي يستغل شعار الحرب على الإرهاب، من أجل مزيد من الظلم والاستبداد والفساد والإفساد ومزيد من التخبط والعشوائية والفوضى وغياب المحاسبة.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017