عن أسلوب غزة

10 يوليو 2014

مشهد في غزة بعد غارة إسرائيلية (يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

في لحظة "صمت من أجل غزة"، كتب محمود درويش مقاله في محراب المقاومة الغزية، قبل سنوات: "تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر. لا هو موت، ولا هو انتحار. إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة". وأزعم أن درويش، الذي لا يكرّر لغته أبداً، فهم غزة، كما لم يفهمها أحد من الشعراء من قبل، فكتب عنها ذلك المقال الذي أعلن فيه، ربما لأول مرة في تاريخ الكتابة، عن هذه المدينة المتلبسة بالمقاومة والناس والبحر، كابتكارات يومية للدهشة والأمل، عن هويتها الواضحة وضوح فلسطين على طريق الأبد.
وليلة العاشر من رمضان الجاري، وجدت غزة نفسها على موعد من مواعيدها الجديرة بالحياة، تمارس أسلوبها المفضّل من جديد، فكانت تحيط خاصرتها بالألغام وتنفجر، لكنها لا تموت ولا تنتحر، بل تستمر في المقاومة كما تفهمها، وكما تعلّمتها وعلّمتها لأهلها، وكما يليق بها، وباسمها العصيّ في نكهته الفلسطينية الخالدة.
لا أحد يفهم معنى المقاومة، إلا مَن مارسها بأيّ شكل من أشكالها، وليس لها شكل واحد أو ثابت. الأصل فيها أن تتنوّع أشكالها، وألا تكرر نفسها، وإن تكررت أسبابها أو أهدافها، بصفتها، في واحد من تعريفاتها المتعدّدة، المعادل النضالي للحرية.
ترى ما الذي حدث في غزة؟ بل ما الذي ظل يحدث فيها طوال أعوام وأعوام من الصمود والاستبسال في مقاومة العدو، والإصرار على الحياة، حتى عبر تلك الطرق المؤدية إلى الموت حتماً؟
ما الذي تفعله غزة، لكي تبقى على قيد النضال، على الرغم من كل هذا الحصار الذي يحيطها به الأقربون قبل الأبعدين؟
لا تفعل سوى أنها تعمل، ولا تنتظر أحداً. تمشي إلى الأمام، مهما كانت العقبات ولا تلتفت للآخرين. تتقدم ولا تعود إلى الوراء. تعرف عدوّها جيداً، ولا تصدّقه أبداً. وتعرف أشقاءها وشقيقاتها جيداً، فلا ترهقهم بحسن الظن، ولا بسوئه، ولا تنتظر منهم شيئاً. وتعرف طريقها جيداً، فلا تحاول اختصاره عبر الدهاليز والطرق الجانبية الملتوية، فتذهب إليه بشكل مباشر عبر الموت المؤدي إلى الحياة. ومن خلال بيوت تُبنى على أنقاض بيوت، وأطفال يولدون في دخان الانفجارات. فيكبرون، ويذهبون إلى مدارسهم، عبر طريق الصمود والمقاومة والأمل نفسه!
غزة تقاوم بالحياة وبالموت معاً، وبكل ما أوتيت من موهبة في المقاومة، وبكل ما تعلمته من تجاربها المستمرة في العيش على حافة الأمل. وأمل غزة لا ينتهي، لأنها من عند الله، ولأنها اعتادت على استثماره في كل ما مر بها ومرت به، فكان تكاثر كما يتكاثر سكانها، وبعد كل تفجير جديد، كان يطلع من تحت الركام أمل جديد، ومع كل شهيد غزاوي، يودع الحياة مبتسماً، لأنه انتصر في تلك اللحظة الفارقة من وجوده الكوني، يولد طفل غزاوي في انبعاث مستمر، وشراكة قائمة دائماً مع الغد.
وغزة العصيّة على كل قياداتها، هنا وهناك، كما هي عصيّة على أعدائها وأصدقائها المفترضين، عصيّة على نفسها، أيضاً، وعلى كل مَن يريد تجيير نضالاتها، أو استخدامها سلّماً للصعود بواسطته إلى أي هدف غير الحرية. وعندما تنفجر غزة من جديد في وجه العدو والصديق الافتراضي، فإنها تجدد لنفسها، ولهم جميعاً، العهد المنفرد الذي اتخذته على نفسها، بأن تبقى على قيد الأمل والحرية والنضال. بالفعل الحقيقي على الأرض الحقيقية، وفي البحر الحقيقي، ففيهما فقط يصير لفعلها معنى المقاومة بلا مائدة للمفاوضات، ولا كمائن للسياسيين، ولا مكانة للزعماء، مهما كانوا منها وفيها. ليس لأنها المدينة العصيّة على العدو وحسب، بل لأنها اختصرت المعنى الأكبر لفلسطين وللفلسطينيين، ومن دون أن تدّعي أنها ممثلة لفلسطين، ولا الناطقة باسم الفلسطينيين، أو العرب. إنها غزة فقط.


 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.