30 مارس 2020
عندما يعود داعش إلى العراق
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
على الرغم من أن الحكومة العراقية أعلنت انتصارها على تنظيم داعش العام الماضي، وعلى الرغم من أن القوات العراقية استعادت، بدعم أميركي، فعلاً السيطرة عسكرياً على المدن التي كان التنظيم قد سيطر عليها وحكمها منذ عام 2014، فقد تزايدت أخيراً عمليات "داعش" في العراق، لتتسبب في سقوط أكثر من خمسين قتيلاً أخيراً، وفي هجمات متعدّدة، كما تمكن التنظيم من اختطاف آخرين. وقد امتدت تحركات مسلحي "داعش" على رقعة جغرافية واسعة، مع امتداد مرتفعات حمرين التي تشكل حداً جغرافياً بين السهل الرسوبي الكبير الذي يمثل وسط العراق وجنوبه والمنطقة الجبلية التي يتكون منها إقليم كردستان في شماله. عاد مسلحو تنظيم داعش إلى حمرين، كما فعلوا حينما انحسر تنظيمهم السابق (دولة العراق الإسلامية) بين عامي 2008 و2009، فما الذي يحصل اليوم؟
ما يمكّن "داعش" من العودة، وتصعيد عملياته، ليس فقط صعوبة تحرّك القوات العراقية في تلال حمرين الوعرة، بل عوامل جوهرية تتعلق بالطريقة التي يدار بها الصراع معه، والتعامل مع ما بعد استعادة المدن التي احتلها منه، فميدانياً وعلى الرغم من مرور أشهر عديدة على استعادة القوات العراقية السيطرة الكاملة على مدينة الموصل، فإن الدمار البشع للمدينة مستمر، من غير أي جهد ملحوظ للإعمار. وقد كانت زيارة نجمة هوليوود وسفيرة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنجلينا جولي، إلى الموصل أخيراً، مناسبة لتذكير العالم باستمرار المأساة وانعدام الإعمار. هذا هو حال الحجر، أما حال البشر فأكثر إثارةً للقلق، إذ توضح
التقارير التي تنقل عن مصادر موثوقة هناك عودة ممارسات الفساد التي أدت إلى سقوط المدينة في الأساس. والحديث هنا عن فساد الأجهزة الأمنية في تعاملها مع المواطنين إلى درجة أن أعضاء في تنظيم داعش أطلق سراحهم، أو لم يتم القبض عليهم أصلاً، على الرغم من معرفة انتمائهم، وذلك بسبب دفعهم رشاوى للجهات المسيطرة في مقابل زج أبرياء في السجن، أبرياء يضافون إلى أبرياء آخرين، يقبعون في السجن منذ سنوات، بسبب الوشايات الكيدية التي فتح المجال بها قانون مكافحة الإرهاب، بفقرته الرابعة سيئة الصيت التي أتاحت للسلطات القبض على الرجال والنساء بالاشتباه، واحتجازهم فترات طويلة.
استهدف مسلحو "داعش" في عملياتهم أخيراً أشخاصاً سنّة وشيعة. وكان لافتاً أن التنظيم طالب بإطلاق سراح النساء السجينات في مقابل إطلاق سراح رهائن عنده. وكان قد تم رفع هذا المطلب في حركة التظاهرات في المناطق السنية في العراق التي سبقت صعود "داعش" واحتلاله الفلوجة والموصل وتكريت، وغيرها من المدن ذات الغالبية السنية. ولنتذكّر أن صعود التنظيم أصلاً جاء بسبب استغلاله الأزمة الطائفية في العراق، فهو يأخذ قوته من استمرار الانقسام الطائفي السياسي المجتمعي وتعمقه، ومن سوء الإدارة والفساد المستشري. ومثلما غابت العدالة الانتقالية في كل مراحل عراق ما بعد 2003، هي غائبة بعد استعادة الموصل والمدن التي كان "داعش" يحتلها. وقد جاء تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش في نهاية العام الماضي على عدم وجود استراتيجية وطنية لمحاكمة أعضاء التنظيم والمرتبطين به.
وتبرز هنا مسؤولية الحكومة العراقية التي أعلن رئيسها، حيدر العبادي، النصر على التنظيم العام الماضي، فسواء بقي في منصبه أم لا، فإن عملية التعامل مع ما بعد الحرب في صلب مسؤوليات حكومته، خصوصاً وأنه رفع شعار تحرير الإنسان قبل الأرض. كما أن الولايات المتحدة التي قدمت دعماً عسكرياً كبيراً، وتحتفظ بآلاف من قواتها في العراق، ولا تنوي سحبهم في وقت قريب، من المفترض أن تساهم في عملية حل الوضع الذي تسبب بصعود "داعش" وتقويته.
وإذا كانت أزمة داعش قد أدت إلى نزوح ثلاثة ملايين إنسان، فإن إعلان النصر لم يتزامن مع عودة النازحين بصورة مُرضية، فما زال أكثر من مليوني ونصف المليون من النازحين
يعيشون خارج ديارهم، لأسباب عديدة، منها عدم إعادة إعمارها، مثل حال الموصل، أو منعهم من العودة، مثل أهالي بيجي قرب تكريت شمال بغداد، أو جرف الصخر جنوب العاصمة العراقية.
وتتحدّث أوساط عراقية وعربية ودولية عن ظهور نسخة جديدة من "داعش"، أو من التنظيمات الجهادية، وكأن الأمر حتمي. والثابت أن جزءاً من التوجه الغربي هو الإيمان بأن العراق والشرق الأوسط منطقة صداع أمني مستمر، وتكرار ظهور التنظيمات الجهادية فيها من ملامح العصر الذي نعيش فيه. أما التوجه الثاني فهو أكثر منهجيةً، إذ يُفهم أن كل الحملة التي شنت ضد "داعش"، وانتهت بانتزاع السيطرة على المدن التي احتلها، لم تعالج أسباب صعوده. وهذه كثيرة، أهمها اختلاط فساد القوى الأمنية المسيطرة على الأرض بالطائفية. ونتذكر هنا تعامل الأجهزة الأمنية مع الناس، وخصوصاً في الموصل قبل سقوطها. تحسّنت الصورة والممارسات جزئياً، في بعض المناطق، ولكن ليس إلى درجة تعزّز الاطمئنان، وتفتح عهداً جديداً. كما أن بناء العملية السياسية على أساس طائفي معضلة حقيقية، وخلل كبير رعاه الأميركيون، واشترك فيه الشيعة والسنة والكرد من أجل اقتسام مغانم السلطة. ولكن من غير أن ينجزوا توافقاً يجلب الاستقرار للمجتمع. عاد تنظيم داعش على أية حال، وسواء كانت هذه نسخة جديدة أم استمراراً للنسخة السابقة، فأسباب وجوده ما زالت قائمة.
ما يمكّن "داعش" من العودة، وتصعيد عملياته، ليس فقط صعوبة تحرّك القوات العراقية في تلال حمرين الوعرة، بل عوامل جوهرية تتعلق بالطريقة التي يدار بها الصراع معه، والتعامل مع ما بعد استعادة المدن التي احتلها منه، فميدانياً وعلى الرغم من مرور أشهر عديدة على استعادة القوات العراقية السيطرة الكاملة على مدينة الموصل، فإن الدمار البشع للمدينة مستمر، من غير أي جهد ملحوظ للإعمار. وقد كانت زيارة نجمة هوليوود وسفيرة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنجلينا جولي، إلى الموصل أخيراً، مناسبة لتذكير العالم باستمرار المأساة وانعدام الإعمار. هذا هو حال الحجر، أما حال البشر فأكثر إثارةً للقلق، إذ توضح
استهدف مسلحو "داعش" في عملياتهم أخيراً أشخاصاً سنّة وشيعة. وكان لافتاً أن التنظيم طالب بإطلاق سراح النساء السجينات في مقابل إطلاق سراح رهائن عنده. وكان قد تم رفع هذا المطلب في حركة التظاهرات في المناطق السنية في العراق التي سبقت صعود "داعش" واحتلاله الفلوجة والموصل وتكريت، وغيرها من المدن ذات الغالبية السنية. ولنتذكّر أن صعود التنظيم أصلاً جاء بسبب استغلاله الأزمة الطائفية في العراق، فهو يأخذ قوته من استمرار الانقسام الطائفي السياسي المجتمعي وتعمقه، ومن سوء الإدارة والفساد المستشري. ومثلما غابت العدالة الانتقالية في كل مراحل عراق ما بعد 2003، هي غائبة بعد استعادة الموصل والمدن التي كان "داعش" يحتلها. وقد جاء تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش في نهاية العام الماضي على عدم وجود استراتيجية وطنية لمحاكمة أعضاء التنظيم والمرتبطين به.
وتبرز هنا مسؤولية الحكومة العراقية التي أعلن رئيسها، حيدر العبادي، النصر على التنظيم العام الماضي، فسواء بقي في منصبه أم لا، فإن عملية التعامل مع ما بعد الحرب في صلب مسؤوليات حكومته، خصوصاً وأنه رفع شعار تحرير الإنسان قبل الأرض. كما أن الولايات المتحدة التي قدمت دعماً عسكرياً كبيراً، وتحتفظ بآلاف من قواتها في العراق، ولا تنوي سحبهم في وقت قريب، من المفترض أن تساهم في عملية حل الوضع الذي تسبب بصعود "داعش" وتقويته.
وإذا كانت أزمة داعش قد أدت إلى نزوح ثلاثة ملايين إنسان، فإن إعلان النصر لم يتزامن مع عودة النازحين بصورة مُرضية، فما زال أكثر من مليوني ونصف المليون من النازحين
وتتحدّث أوساط عراقية وعربية ودولية عن ظهور نسخة جديدة من "داعش"، أو من التنظيمات الجهادية، وكأن الأمر حتمي. والثابت أن جزءاً من التوجه الغربي هو الإيمان بأن العراق والشرق الأوسط منطقة صداع أمني مستمر، وتكرار ظهور التنظيمات الجهادية فيها من ملامح العصر الذي نعيش فيه. أما التوجه الثاني فهو أكثر منهجيةً، إذ يُفهم أن كل الحملة التي شنت ضد "داعش"، وانتهت بانتزاع السيطرة على المدن التي احتلها، لم تعالج أسباب صعوده. وهذه كثيرة، أهمها اختلاط فساد القوى الأمنية المسيطرة على الأرض بالطائفية. ونتذكر هنا تعامل الأجهزة الأمنية مع الناس، وخصوصاً في الموصل قبل سقوطها. تحسّنت الصورة والممارسات جزئياً، في بعض المناطق، ولكن ليس إلى درجة تعزّز الاطمئنان، وتفتح عهداً جديداً. كما أن بناء العملية السياسية على أساس طائفي معضلة حقيقية، وخلل كبير رعاه الأميركيون، واشترك فيه الشيعة والسنة والكرد من أجل اقتسام مغانم السلطة. ولكن من غير أن ينجزوا توافقاً يجلب الاستقرار للمجتمع. عاد تنظيم داعش على أية حال، وسواء كانت هذه نسخة جديدة أم استمراراً للنسخة السابقة، فأسباب وجوده ما زالت قائمة.
دلالات
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020