عندما عشقتُ بيروت وكرهتها

07 اغسطس 2017
وأرى الكثير من أحلام اليقظة (رسم: فؤاد هاشم)
+ الخط -

لسنواتٍ طويلة، كنت متعلّقاً بها. لكن فجأة، اكتشفت أنّها لا تعني لي شيئاً. بيروت الشوارع والأبنية والفصول الأربعة وزحمة السير والمقاهي والسهر والمحال التجارية وتفاصيل أخرى جامدة، يمكن أن أجدها في أية مدينة أخرى في العالم. ويطيب لي التخلي عنها وعن ذاكرتي فيها. أحياناً، أستطيع ذلك بمجرد أن أشيح بنظري عنها لفترة من الزمن، وأصنع أماكن جديدة من دون أي شعور بالندم. كأنّه يجب أن لا أكون وفياً لها.

ولا أثبت. هناك ما يبقيني بين هذه الأماكن الكثيرة. أشخاص حاضرون دائماً يزيّنون تفاصيلها، ليجعلوا لكلّ شيء قيمة. المقاهي وفناجين القهوة والكورنيش البحري وغيرها. صباح كلّ يوم، أعدّ قهوتي، ثم أمشي على أرصفة المدينة من دون هدف، وأسرح فيها. أهرب منها ثم أعود إليها وقد أدمنتها في يوميّاتي. وأخشى أن يتقلّص عدد الأشخاص إذا ما هجروا المدينة وأماكنها، وقد اعتدت أن يكونوا معي فيها.

لكن... ماذا لو كنت أنا من هجر هذه الأماكن؟ هل يتوقف الزمن أو يصير بطيئاً في انتظار عودتي؟ هل يتوقف كل شيء؟ الولادات والحركة العمرانية والأحاديث الجانبية والأحلام وما بقي من حراك سياسي في البلد؟ ربّما أتفاجأ بمجموعة كبيرة من التغيرات والتقلبات التي ستحصل في غيابي، قبل أن أعود إلى الواقع وإلى ذاكرتي والأماكن نفسها، وأزيح الستائر التي أسدلتها بعدما هجرت الأمكنة، هي التي شكلت حاجزاً وهمياً بيني وبين المطارح والذاكرة. أبدأ من جديد وأتوجه إلى أماكني. لا أبحث خلف الستائر عن أشياء لم أختبرها، فهذه ذكريات الآخرين، وسأكتفي بالاستماع إليها. ولكن...

في هذه الأيّام، أعيش تناقضاً في داخلي، وتناقضاً بين الأشخاص والأمكنة، وتناقضاً بين الماضي والحاضر. أبحثُ عن اللحظة التي لم أعشها بعد، ولا أعترف أنّ بعض اللحظات هي خارج ذاكرتي وليس لي أية علاقة بها، وربما لا يجب أن أكون جزءاً منها، وقد أنهكتني الأجزاء. كنتُ في مكانٍ آخر أصنع ذاكرة مختلفة عما أبحث عنه، ولا أعرف ماذا كانت النتيجة. ربّما ندمت لخروجي من المكان، أو لأنني على عكس ما أعتقد، وعلى عكس ما اكتشفت، متعلّق بهذه المدينة وأشخاصها معاً. ما زلت أحب بيروت.

وفي اللّحظات التي أكون فيها خارج الأماكن، أشعر بأنني في نوم طويل. وأرى الكثير من أحلام اليقظة والقليل من الذاكرة. ربما تكون هذه صورة عبثية عن تعلقي أو عشقي وكرهي لبيروت. في كلّ مرة، أحاول الابتعاد عنها، وأجد نفسي بين زواريبها وعلى أرصفتها. أشرب قهوتي مع شمسها وأختبر الفوضى فيها... ولكن!

المساهمون