عندما تصبح حياة المنفى "مهنة" شاقة

29 يناير 2015

لاجئون عراقيون في باريس (16أكتوبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

انقضى عام آخر، ورحلة "التيه" لملايين العراقيين لم تنته بعد. وقد انقطع الرجاء، واضمحل الأمل في عودةٍ، ولو متأخرة، إلى وطنٍ لم يعد يحمل ملامح الولادة الأولى، فقد تحول إلى وطن "هجين"، أبوه عربي، لكن أمه أعجمية، يحكمه الأغراب، من اللصوص والسحرة وتجار الطوائف والراقصين على أجداث الموتى، الذين قدموا من قاع الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، بفعل أميركي أو إيراني، أو بالفعلين معاً، وليس ثمة ما ينبئ بخلاص قريب، أو بنصف "خلاص"، إذا كان خلاص الأوطان قابلا للقسمة.

لم يعرف العراقيون، منذ تأسيس دولتهم الوطنية عام 1921، وحتى عهود "الجمهوريات"، رحلات هجرة ونفي وتيه، كالتي حدثت في أيامنا هذه. إنصافا نقول إن فكرة الهجرة، أو اللجوء، لم تخطر في ذهن عراقي واحد، في عهد الملوك، وحتى في عهد الجمهورية الأولى، إلا بعد أن استوطن البلاد "العسكر" والدعاة الشموليون، واحتكروا سلطة القرار. أيامها، ومع ازدياد موجة الحروب والحصارات، وتعاظم حملات القمع والتنكيل، شعر العراقيون أنهم توقفوا عن إدراك الأشياء الجميلة التي عرفوها في حياتهم، وأوشكوا أن يفقدوا بلادهم التي ألفوها، بعدما لم تعد تمنحهم حقهم في العيش على أرضها بكرامة وإباء، وهكذا فكر بعضهم في سفر طويل، أو الهجرة، وقدّرت الأمم المتحدة في حينها عدد من ارتحلوا إلى خارج البلاد بنحو مليونين، لكن الرقم تضاعف أكثر من ثلاث مرات بعد الاحتلال.

لم يعد هؤلاء، اليوم، وحدهم أسرى هذه المحنة، أو قل هذه "المهنة" الشاقة التي تحدث عنها ناظم حكمت، فقد لحق بهم، أو التحق قبلهم، منفيون من هذا البلد العربي أو ذاك، إن باختيارهم، أو بإجبارهم على الرحيل، تسعة ملايين من سورية، بحسب بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، نصف مليون من اليمن، كما تقول تقارير موثقة، و300 ألف من ليبيا، والرقم من الأمم المتحدة، وأرقام أخرى من مختلف أصقاع العالم العربي. ودعك من هجرة ونزوح خمسة ملايين من فلسطين، قال "الميثاق الوطني الفلسطيني" إن حقهم في العودة "أبدي، ولا يقبل التأويل"، لكن هذا "الحق" دخل سوق المساومات والابتزاز السياسي، ولم يخرج بعد!

لا تستغرب إذا ما قيل لك إن ثمة أكثر من 50 مليون لاجئ في العالم، نصفهم عرب، وإن عدد النازحين والمهجرين داخل بلدانهم تجاوز 33 مليونا، نصفهم عرب أيضاً!

هنا، لك أن تقول إن العالم العربي لم يعد مكاناً آمنا للعيش وممارسة الحياة الطبيعية، أكثر من أي مكان آخر، وإن القائمين على أموره ليسوا قادرين على تدبير حلول لمشكلاته، أو إدارة موارده. هنا، لك أيضاً أن تسكب العبرات، عندما تكتشف أن كل هؤلاء المنفيين ينظرون بغبطة، وحتى بحسد، إلى العصافير المهاجرة، لأنها وحدها تحتفظ بحق العودة، وهي تعرف طريق عودتها وزمانه!

الأشد معاناة من كل هؤلاء، المنفيون من النوع الآخر، من النازحين الذين هجّرتهم دولة "داعش"، أو مليشيات ما يسمونه "الحشد الشعبي"، وقد وجدوا أنفسهم فجأة وسط "أرخبيل" دونه "أرخبيل غولاغ"، الذي اختبره سولجنتسين الذي نذكر له بالخير نصيحته للمنفيين بأن يحملوا أوطانهم في ذاكرتهم، "لا تحمل حقيبة سفر أبداً، اجعل من ذاكرتك حقيبة سفرك الوحيدة، ضع فيها مفردات لغتك، وتضاريس وطنك، ووجوه الناس الذين تعرف، وحكاياتهم، وستكتشف أنك باق في وطنك، كما كنت قبل رحيلك".

نذكر أيضاً نصيحة محمود درويش أن لا يأخذ النازح معه سوى "زوادة فيها رغيف يابس، ووجد، ودفتر"، لأن أي شيء آخر، مهما كانت قيمته "لا يرجع الغريب إلى الديار". وللنازحين والمهجرين الجدد حكايات أخرى، لها طعم العلقم المر. يكفي أنهم لا يرحلون إلى حياة مختلفة، إنما إلى موت مختلف، يجيئهم بطيئاً، جوعاً أو عطشاً، أو حنيناً إلى وطن لم يعد يبادلهم الحب!

ولا نملك لهم، نحن المنفيين قبلهم، سوى طلب العون، وإن أعيتنا الحيلة، فليس لنا سوى الله، وقد رفعت "مغردة" عراقية قبلنا يدها بالدعاء على "تويتر": "اللهم، يا من لا تضيع عنده الودائع، نستودعك المساكين والمهجرين والضعفاء والنازحين، وكل المنفيين".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"