28 سبتمبر 2016
عندما ترحل عن وطنك قسراً
شهرزاد بن جدو (تونس)
عندما تكون في زيارة ألمانيا، البلد الصناعي المنقذ لمنطقة اليورو برمتها، لن تشد انتباهك نظافة الطرقات وانضباط الأفراد ومدى احترامهم القانون، فهذا ستجده في أي بلد أوروبي، بل حتماً ستسترعي انتباهك وجوه هائمة شاخصة، في عيونها رغبة في الاكتشاف، وألم لا يخفى على الناظرين.
من السوريين الذين التقيتهم، وعبر كلماتهم وأجوبتهم عن أسئلتي، حين تحدثت إليهم اكتشفت معنى أن ترحل عن وطنك قسرا، اكتشفت معنى أن يتحوّل الوطن إلى مجرد خبر نلمحه مساء في شريط الأخبار. اكتشفت معنى قسوة أن تعلم، وأنت في بلد آخر وقارة أخرى، أن أهلك وحيك وجيرانك، وما تبقى من ذكرياتك شملهم الدمار.
كم آلمتني كلمات عبد الرحمن، اللاجئ السوري الذي التقيته في إحدى المدن الألمانية، والذي نجا في بحر إيجة من الموت بأعجوبة. قال لي يجب أن نحمد الله أننا على قيد الحياة، ولم نمت تحت القصف، وأننا لم نغرق في البحر. ولكن، من قال إننا مازلنا أحياء، نحن نقتل هنا في اليوم آلاف المرات، نقتل حين نجبر على تعلم لغةٍ لا نفقه من أبجدياتها شيئاً، نقتل حين نجبر على التأقلم والاندماج، حين لا يجبر الآخرون على ذلك، نقتل حين يصل إلينا خبر موت أو غرق عزيز، بل ونذبح حين ندرك أن العودة إلى سورية ليست قريبة.
كانت عينا عبد الرحمن مليئتين بالحزن والحسرة، وبقليل من الأمل. في تلك اللحظة، فكّرت في عيون الآخرين، عيون أولئك العالقين بين الحدود والمعابر، أولئك المرميين في المخيمات وأمام الأسلاك الشائكة، الصاعدين في قوارب الموت، آملين النجاة. لم أجرؤ طبعاً أن أفكّر في الذين يتألمون تحت الدمار والأنقاض والقصف، اللذين انهال عليهم وابل من الرصاص والسوخوي والبراميل المتفجرة، اللذين أرعبهم صليل الصوارم، وخذلهم صمت الأمم.
صحيح أن من وطأت قدماه أرض ألمانيا فهو آمن، كما أنه يعد من المحظوظين، فهذا البلد يوفر للاجئين حياة هادئة، وسقفا ينامون تحته، من دون خوف أو ترقب، بيد أن الحياة هنا ليست وردية، كما قد يعتقد بعضهم، ذلك أن عائق اللغة والتواصل والاندماج والابتعاد عن الأهل والأحبة يحولان الجنة التي حلم بها السوريون، وهم في طريق فرارهم من جحيم الحرب وسعيرها، إلى سجن كبير ساروا إليه طوعاً.
يعوّل لاجئون سوريون كثيرون على نعمة النسيان، حتى ينسوا ماضيهم وذكرياته الجميلة، وحتى يتأقلموا مع مجتمعٍ جديد له عاداته وتقاليده الخاصة، إذ يقول قصي، أحد اللاجئين الذين التقيتهم ''يمكن للأطفال الصغار أن ينسوا، يمكنهم أن يبنوا مستقبلهم هنا. أن يحبوا. أن يتعلموا اللغة والتقاليد وأن ينسوا الذكريات. ولكن، كيف لنا، نحن الكهول، أن ننسى، كيف لنا أن ننسى وطننا وزقاقنا ووجوه من أحببنا".
من السوريين الذين التقيتهم، وعبر كلماتهم وأجوبتهم عن أسئلتي، حين تحدثت إليهم اكتشفت معنى أن ترحل عن وطنك قسرا، اكتشفت معنى أن يتحوّل الوطن إلى مجرد خبر نلمحه مساء في شريط الأخبار. اكتشفت معنى قسوة أن تعلم، وأنت في بلد آخر وقارة أخرى، أن أهلك وحيك وجيرانك، وما تبقى من ذكرياتك شملهم الدمار.
كم آلمتني كلمات عبد الرحمن، اللاجئ السوري الذي التقيته في إحدى المدن الألمانية، والذي نجا في بحر إيجة من الموت بأعجوبة. قال لي يجب أن نحمد الله أننا على قيد الحياة، ولم نمت تحت القصف، وأننا لم نغرق في البحر. ولكن، من قال إننا مازلنا أحياء، نحن نقتل هنا في اليوم آلاف المرات، نقتل حين نجبر على تعلم لغةٍ لا نفقه من أبجدياتها شيئاً، نقتل حين نجبر على التأقلم والاندماج، حين لا يجبر الآخرون على ذلك، نقتل حين يصل إلينا خبر موت أو غرق عزيز، بل ونذبح حين ندرك أن العودة إلى سورية ليست قريبة.
كانت عينا عبد الرحمن مليئتين بالحزن والحسرة، وبقليل من الأمل. في تلك اللحظة، فكّرت في عيون الآخرين، عيون أولئك العالقين بين الحدود والمعابر، أولئك المرميين في المخيمات وأمام الأسلاك الشائكة، الصاعدين في قوارب الموت، آملين النجاة. لم أجرؤ طبعاً أن أفكّر في الذين يتألمون تحت الدمار والأنقاض والقصف، اللذين انهال عليهم وابل من الرصاص والسوخوي والبراميل المتفجرة، اللذين أرعبهم صليل الصوارم، وخذلهم صمت الأمم.
صحيح أن من وطأت قدماه أرض ألمانيا فهو آمن، كما أنه يعد من المحظوظين، فهذا البلد يوفر للاجئين حياة هادئة، وسقفا ينامون تحته، من دون خوف أو ترقب، بيد أن الحياة هنا ليست وردية، كما قد يعتقد بعضهم، ذلك أن عائق اللغة والتواصل والاندماج والابتعاد عن الأهل والأحبة يحولان الجنة التي حلم بها السوريون، وهم في طريق فرارهم من جحيم الحرب وسعيرها، إلى سجن كبير ساروا إليه طوعاً.
يعوّل لاجئون سوريون كثيرون على نعمة النسيان، حتى ينسوا ماضيهم وذكرياته الجميلة، وحتى يتأقلموا مع مجتمعٍ جديد له عاداته وتقاليده الخاصة، إذ يقول قصي، أحد اللاجئين الذين التقيتهم ''يمكن للأطفال الصغار أن ينسوا، يمكنهم أن يبنوا مستقبلهم هنا. أن يحبوا. أن يتعلموا اللغة والتقاليد وأن ينسوا الذكريات. ولكن، كيف لنا، نحن الكهول، أن ننسى، كيف لنا أن ننسى وطننا وزقاقنا ووجوه من أحببنا".
مقالات أخرى
18 سبتمبر 2016
27 يونيو 2016
16 يونيو 2016