عندما تتسع الاحتجاجات في تونس

16 ابريل 2017

من احتجاجات العاصمة التونسية (13/4/2017/الأناضول)

+ الخط -
اندلعت مجددا الاحتجاجات الاجتماعية في تونس. ولكن هذه المرة من الجنوب التونسي، وتحديدا من محافظة تطاوين التي تعد ثلث مساحة البلاد. وسرعان ما ضمت الاحتجاجات محافظاتٍ أخرى في الشمال أو الوسط، على غرار الكاف والقيروان ومدن أخرى موزعة عل كامل تراب البلاد. إذا كانت المحافظة الأولى تختزن بين طياتها جل ما تنتجه البلاد من البترول والجبس، فإن المحافظات الأخرى لم يسعفها الحظ في أن تكون لها موارد طبيعية ذات شأن، كما أن السياسة لم تنصفها، سواء ما قبل الثورة أو بعدها، حتى تتدارك، بل قد يكون وضعها ساء أكثر على نحو ما. لم تحمل مطالب المحتجين شيئا جديدا، فقد غدت معروفة مسبقا: التشغيل والتنمية والعدالة بين المحافظات ومحاربة الفساد، وأحيانا إسقاط الحكومة الحالية التي يعتقد بعضهم أنها مثل سابقاتها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الوعود التي أعلنتها.
كانت السلطة التونسية تخشى أشهرا بعينها، عرفت بأنها "أشهر الاحتجاجات"، منها خصوصا شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط اللذين عرفا أهم الانتفاضات الاجتماعية التي هزّت البلاد، غير أن السنوات الأخيرة عرفت تغيرا مهما، سواء في خارطة الاحتجاجات أو رزنامتها، إذ تمدّدت الاحتجاجات، لتشمل مناطق غير تقليدية، على غرار الكاف وتطاوين والقيروان، أي مساحات خارج المثلث التقليدي للاحتجاج: الحوض المنجمي والقصرين وسيدي بوزيد والمنطقة الحدودية (بن قردان). كما أن هذه الاحتجاجات تمدّدت أيضا زمنيا، حيث لم تعد مقتصرةً على الأشهر الثلاثة الأولى من كل سنة، في تواصلٍ مع الحدث الاحتجاجي التأسيسي الذي عرفته البلاد سنة 1978، حيت شهدت تونس، إبّان حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، أعنف احتجاجات دامية، نتيجة الصراع بين المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل، والسلطة السياسية، حين كان رئيس الحكومة الوزير الأول الهادي نويرة.
تختلف الحركات الاحتجاجية، هذه السنوات الأخيرة، عما سبقها، لأنها لم تعد بالضرورة امتدادا لتحركات نقابية أو على خلفية رفض الزيادات في أسعار المواد الغذائية، وتردّي المقدرة 
الاجتماعية، ذلك أن أسبابا أخرى دخلت على قائمة مبرّرات هذه التحركات، فهذه الاحتجاجات تستند، هذه المرة، على ثقافةٍ جديدةٍ، عمقها دستور البلاد الذي نصّ، في أكثر من فصل، على التمييز الإيجابي لبعض الجهات والمناطق الداخلية للبلاد، بعد عقود طويلة من الحرمان، فجل الاحتجاجات الجارية حاليا محكومة بمنطق "مناطقي"، تصبح فيه المنطقة أو المدينة مصدر المشروعية للاحتجاج. أما العنصر الطارئ الآخر، فهو الحضور اللافت للفئات الشبابية بشكل خاص، غير أنها ظلت ضعيفة الوعي ببعدها الجيلي، مشدودة أكثر لثقافة المكان، تحت ارتفاع منسوب الشعور بالغبن الجهوي/ المناطقي، وذلك ما دفع بعضهم إلى التحذير من مغبة تنامي الثقافة الجهوية التي قد تمزّق، وتنامت على هذا النحو، خصوصا في ظل ميراث مضنٍ من الحيف الجهوي الذي قسم البلاد إلى شريطٍ ساحليٍّ مقابل مناطق داخلية، أو شمال مقابل جنوب، بحسب زوايا النظر والتوظيفات الممكنة، ما قد تكون له آثار سيئة على مستقبل الأجيال المقبلة.
لا شك أن البطالة وغياب التنمية من أهم أسباب التحرّكات الاجتماعية التي تدفع، هذه الأيام، آلاف الشبان والمواطنين للنزول إلى الشارع. واللافت للانتباه أن هذه التحرّكات، وعلى خلاف سابقاتها، تتسم بسلميتها، حيث لم تشهد أعمال عنف أو تخريب (إتلاف ممتلكات عمومية أو خاصة، حرق مراكز أمنية، تعطيل مرافق عمومية باستعمال القوة ...). وكلنا ما زال يستحضر ما جرى، خلال السنة الفارطة، في مدن القصرين وبنقردان وقرقرنة.. إلخ. وقد يكون هذا العامل بالذات هو ما جلب لها تعاطف قاعدةٍ واسعةٍ من الرأي العام، بل حتى من داخل الحكومة ومجلس نواب الشعب. وبذلك فوّتت هذه التحرّكات على خصومها الطعن فيها أو نسبها إلى ''أياد وأطراف لا تريد خيرا للبلاد، وقد اتهم سابقا حراك شعب المواطنين أو الجبهة الشعبية "بتأجيج الوضع والركوب عليه".
ربما تراهن الحكومة على عامل الوقت، وهي تناور من أجل ربح بعض الأسابيع المقبلة، حتى تأمن الوصول إلى شهر مايو/ أيار، حيث يبدأ موسم الامتحانات الجامعية والمدرسية، وهو موسم يفرض تفرغا للعائلة، وزهدا في السياسة، فضلا عن الاحتجاج، إلى أن يحل موسم الصيف، وهو موسم الارتخاء والإقبال على الشاطى والسياحة الداخلية، إلى حين إقبال العودة المدرسية والجامعية. وربما لهذا السبب بالذات تدرك الجموع المحتجة أنها هي أيضا في سباقٍ ضد الساعة، حتى تحقق أقصى ما يمكن من نتائج.
تبدو المقاربة التي اعتمدتها الحكومة للتعاطي مع هذه الاحتجاجات، إلى الآن، تقوم على إطفاء الحرائق، حيث ترسل فريقاً وزاريا، يرافقه بعض نواب الجهة في مجلس نواب الشعب المنتمين إلى أحزاب الائتلاف الحكومي، إلى المنطقة المحتجة، والجلوس مع أطياف المجتمع المدني
ورموز ذلك الحراك، لتنتهي هذه الجلسة باتفاق عام، هو مزيج من الوعود والالتزامات، وهي مقاربة تختلف جزئيا عن مقاربة حكومة حبيب الصيد التي حاولت أن تعقد مجالس وزارية برئاسة الحكومة نفسها، تخصّص لفض الإشكاليات، وتلبية طلبات المحتجين بحضور ممثلين عن المحافظة والمجتمع المدني. ولكن، يبدو أن هاتين المقاربتين فشلتا، إلى حد الآن، في تقديم حلول واقعية، تلبي طموحات المحتجين. دفعت هذه التجارب السابقة والمخيبة المحتجين، هذه المرة، إلى رفض هذه المقاربة، مصرّين على حضور رئيس الحكومة نفسه إلى الجهة وإنجاز الوعود السابقة، فضلا عن البدء الفوري في إجراءات عملية.
ليست هذه الاحتجاجات قادرة على إسقاط الحكومة، على خلاف بعض التوقعات، ولا هي قادرة على تلبية كل المطالب التي تقتضي إمكانيات، لا يمكن لعاقل أن يعتقد أن الدولة تمتلكها، وذلك ما سيؤدي، إن تواصلت الاحتجاجات، إلى نسف الاستقرار السياسي الهش لبلدٍ عجز عن إقناع مواطنيه بأن مطالبهم المشروعة تقتضي تضحيات. هذا الفشل البيداغوجي ربما ناجمٌ بدوره عن خوف النخب وانتهازيتها (الاستثمار في الفشل) تارة، وفساد بعضها تارة أخرى. لا يمكن للشعوب أن تضحّي، وساستها لا يقدمون قدوات ونماذج في ذلك.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.