عمَّ يبحثون؟

08 أكتوبر 2015
+ الخط -
قل لي ما الذي تفعله مراكز الأبحاث في بلدك، أقل لك ما هو بلدك؟ في فلسطين، لدينا عدة مراكز أبحاث مستقلة، أي أنها لا تخضع لسيطرة أي سلطةٍ سوى سلطة الحقيقة، كما نفهم من برامج هذه المراكز. لا دولة حضارية من دون مراكز أبحاث ذات بعد مؤسسي مستقل، بعيداً عن تأثيرات سلطات المجتمع وضغوطها، من عشيرة وأحزاب وحكومة ومصالح شخصية وعلاقات. لا مبالغة في القول إن مراكز الأبحاث هي ضمير البلد وصفاؤها الداخلي ومرآتها، ولا مستقبل لأي بلد من دون مراكز أبحاث فاعلة وحيوية ومستقلة، قادرة على استشراف المستقبل ورصد التطورات والمطبات واكتشاف الثغرات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلاقات مع الدول الأخرى.
ثمة حادثة تشبه الفضيحة وقعت في مركز أبحاث شهير في فلسطين، طُلب من باحثٍ متخصص إنجاز بحث عن قضية ثقافية اجتماعية معينة، وهو نشيط ومتحمس وموهوب، عاد أخيراً من غربته الطويلة ليخدم بلاده، أُعطي ستة أشهر لينهي البحث، ومن البديهي أن لا تكون هناك استنتاجات مسبقة للبحث، أو أهداف متوقعة، فهدف البحث العلمي هو الحقيقة بعد جهد عميق.
خرج الباحث الموهوب بنتائج معينة، لم تعجب إدارة المركز (المستقل)، فاستدعي على الفور، ووُبخ على نتائج مفاجئة، قد تربك علاقات المركز وسياسته ومصالحه مع المناخ الثقافي، جن جنون الباحث، وصدم من هذا التعامل، وهو القادم من فرنسا، حيث للحقيقة هناك صوتها المعلن والمسموع وجوهرها المهم. رفض الباحث الأمين تغيير حرف واحد في النتائج التي وصل إليها، وأسمعهم كلاماً قاسياً. وحين تم عرضها على ما يسمونه المقيّم، أُجيزت، وتم الاعتراف بمنجزه بحثاً مهنياً رصيناً ومهماً، لكن الباحث العنيد فوجئ، حين أعيد بحثه إليه بعد إجازته بتلاعب فاضح في بعض العبارات والفقرات، تخفيفاً من لهجة البحث الصريحة والصادقة، ونفاقاً لجهاتٍ معينة يخاف المركز إغضابها.
تلك حادثة تبرز جانباً مظلماً في سياسات بعض المراكز البحثية في فلسطين، وثمة مراكز غاية في الرصانة والأمانة، لكنها لا تمثل الصورة العامة التي يعرفها الكل. والغريب أننا شعب ما زال تحت الاحتلال، فنحتاج إلى مراكز أبحاث صادقة مع نفسها، ومع الناس، إسهاماً في معركة تحرير بلادنا، وكشفاً للعيوب الذاتية التي نعاني منها، والتي لا دخل للاحتلال فيها. ثمة حاجة ماسة في بلادنا لمن يستشرف آفاق حياتنا النضالية، ويضع يده القوية على جراحنا التي تسبّبنا نحن بها لأنفسنا بسبب ضيق أفقنا، وأخطائنا المختلفة. تحتاج مسيرتنا إلى اعترافاتٍ شجاعة بسلوكاتٍ أودت بنا إلى الفشل. كان غياب الحس النقدي في ثورتنا سبباً كاملاً في تراجع الصورة البهية للفدائي الفلسطيني، كما تشكلت في أذهان الفلسطينيين عقوداً. غابت الثقة بين الناس والثورة التي تحولت إلى سلطة فيما بعد، ولم يكن ممكناً إنقاذ هذه الثقة وهذه الصورة، إلا بمراكز أبحاث مستقلة تماماً عن أية ضغوط أو وصاية.
كلنا نسمع ونقرأ عن مؤتمر هرتسليا الإسرائيلي السنوي، والذي تحضره وتشارك فيه نخبٌ إسرئيلية واسعة من جيش ومخابرات واقتصاديين وفنانين ورجال أعمال من اليمين واليسار والحرديم وضيوف من المختصين الأجانب، هدف المؤتمر حماية أمن إسرائيل وإبقاؤها قوية، بمراقبة ما يحيط بها من أخطار وتحليلها.
نحتاج، نحن الفلسطينيين، إلى مؤتمر فلسطيني سنوي كبير، تحضره وتشترك فيه تمثيلات عريضة من النخب الفلسطينية، لمناقشة أمن الفلسطينيين القومي ورصد الأخطار الماثلة ومراجعة الأخطاء، واستشراف المستقبل. مؤتمر لا يأتمر من أحد، ولا وصاية أو رقابة على أبحاثه وأوراقه، مؤتمر يقول للأعور أنت أعور في عينه تماماً، مؤتمر (على الأقل) لا يغضب فيه أحد من أحد، لأن اسمه في أوراق الأبحاث كُتب في ذيل صفحات كتاب أعمال المؤتمر.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.