12 ابريل 2020
على خطى الحبيب... ذكريات موسومة بالوفاء
كلما حلّ شهر رمضان، وفُتحت خزنة الذاكرة بمشاهد لمختلف أيّام الطفولة، مازجةً بين التجول مساءً في أزقّة المدينة المعطّرة بالرّوائح الزكيّة، والتردّد على المساجد للإكثار من العبادات الميسّرة في ذلك الشهر. لكن ما ميّز تلك الأيّام الجميلة، البرامج والمسلسلات الدينية والتاريخية، التي شكّلت نسيج المِخيال البطولي للمجتمعات العربية، وصنعت منه أمل أجيال متعاقبة.
فلا تكاد تخلو ذاكرة جزائرية من أجيال الثمانينيات وبداية التسعينيات للقرن الماضي، من مشاهد بطولية لحلقات من مسلسلات الكواسر والبواسل وما أعقبها من حروب الشوارع بين الصبية من مختلف أحياء المدن، دفعهم واقعهم المرير إلى استبدال سيوف ليث والباسق، بأغصان الزيتون الصلبة لردع الأعداء، مثلما كانت تفعل قبيلة شقيف بغيرها من القبائل العُزّل.
أمّا البرامج الدينية، فقد كانت نادرة في تلك الأيام، بعيدة عن كلّ استقطاب أيديولوجي وما يتبعه من سموم قاتلة. لذلك تكلّلت نجاحاتها بتكوين النواة الأولى من الثقافة الدينية لشرائح مختلفة من تلك أجيال، كما شكّلت المعالم الأساسية لهويتها الإسلامية.
برنامج الداعية عمرو خالد الذي بثّ سنة 2005 تحت عنوان "على خطى الحبيب"، كان واحداً من بين تلك البرامج التي هذّبت النفوس ولازمت الأذهان، بسردها لحيثيات مشوّقة من السيرة النبوية، وما كان على مسلم القرن الحادي والعشرين، أن يستخلص منها من دروس وعبر.
كان عمري آنذاك قد تجاوز العاشرة بقليل، لكن ككلّ من أحاطني من مجتمعي، كنت أتلذّذ قُبيل دقائق من الإفطار، بعذوبة صوت عبد الباسط عبد الصمد، الذي كان يُطلق عنانه بتلاوة للقرآن الكريم عبر التلفزة الوطنية، وأنتظر بعدها بفارغ الصبر، ذلك البرنامج الذي أدمنت أنغام شارة مقدّمته وأسلوب منشّطه.
كلّ يوم، وبعد الفراغ من مشاهدة البرنامج، كان يجتمع من يكبرونني سناً، لمناقشة وتحليل المحطات المختلفة لحياة الصحابة الكرام، مبدين انبهارهم بذلك المجتمع البسيط، الذي صنع منه رسولنا الكريم أمجاد الأمّة الإسلاميّة. بدوري كنت أحرّر مخيّلتي لتقتحم ذلك المجتمع، كي تجد فيه لنفسها دوراً بطولياً، لا يختلف عن دور بلال بن رباح، أو مصعب بن عمير.
أذكر ذات ليلة أنّي سمعت أحد أقربائي يتكلّم بشغف عن مدى عبقريّة خطط خالد بن الوليد الحربية، واصفاً إيّاها بالجهنميّة. اقتربت منه وألححت عليه أن يشرح لي تلك الخطّة، لأساعد مخيّلتي على جمع المعطيات اللّازمة، ومن ثمّ أتركها تشارك في حروبها المشتهاة. لكن ردّ عليّ بلطف، وأخبرني أنّه يستعصي على أمثالي في السنّ فهم مثل تلك الأشياء.
لذلك حرصت بعد سنوات على إعادة مشاهدة البرنامج، وذلك عندما أصبحت مسيطراً على مخيّلتي المتعنتة، ومستوعباً حقائق الأشياء دون وساطة، لأتعلّق به مرّة ثانية، وبما كان يحمل من رسائل نبيلة.
من جهته، كان مقدّم البرنامج "عمرو خالد" قد لمع نجمه في الأفق وأصبحت أشرطته الدينيّة تزاحم أشرطة أغاني الراي الجزائرية، ومن ذلك برزت العبارة الشهيرة للشارع الجزائري: "من فوق عمرو خالد، ومن تحت الشاب خالد"، منتقدةً الفتيات اللّواتي كان يراهنّ المجتمع الجزائري متناقضات في لباسهنّ.
غير أنّ الأضواء والشهرة لم يدوما طويلاً، وارتطم الداعية عمرو خالد كغيره من الدعاة، بواقع سياسي متسلّط، أراد مِن كلّ تلك البرنامج أن تكون وسيلة لإخضاع الشعوب، ومن أصحابها، الدعاية لسياساتهم، لا الدعوة إلى الرسالة الحقّ. حينها خضع من خضع، وغُيِّب في السجون مَن غُيِّب، وفارق الأوطان من فارق.
وبغضّ النظر عن الخضوع من عدمه، أو المواقف المشرّفة من المسيئة التي يمكن الإنسان الوقوع فيها خلال مرحلة معينة من الحياة، يبقى برنامج "على الخطى الحبيب" وعمرو خالد الذي كان له الفضل الكبير في إنجاحه، سبّاقاً لإشعال فتيل الأمل وتعليم مبادئ الدين السمح، لأجيال بريئة، نُحرت طفولتها وسط تعاسة الأحداث السياسية، مثلما كان عليه حال الجزائر.
لذا، فمن أخلاق المسلم عدم نكران فضل الناس عليه، ولا على من صنعوا أمجاد طفولته وجعلوا من تعاستها بهجةً وسروراً، ولو بابتسامة تشبه تلك التي كان يثلج بها عمرو خالد صدر كلّ من شغّل شاشة تلفازه وتابع برامجه. لذلك، سأبقى ككل رمضان أذكر البرنامج لغيري من الأجيال، داعياً لصاحبه، بسَعادة كتلك التي غمرني بها وأنا صغير.