جزائر كمال داود... أم جزائر الجزائريين؟

25 مارس 2020
+ الخط -
من بوتقة التطرّف، لمع نجم الكاتب الجزائري كمال داود، بعدما أقدم أحد متنطّعين على تكفيره والتحريض لإهدار دمه عبر قناة تليفزيونية، ليحظى بعدها صحافي يومية وهران الناطقة باللّغة الفرنسية، بموجة تعاطف تكلّلت بتكريمه بأعلى الجوائز الأدبية الممنوحة للكتّاب بفرنسا..

ومنذ تلك اللّحظة، يتردّد كمال داود باستمرار على أشهر المنابر الإعلامية في الغرب، مكتوبة كانت أم مرئية، يحاول من خلالها تقديم صورة مبتذلة عن الجزائر، يصفها الكاتب في أكثر من مناسبة، بالمعدومة.

اتضحت المعالم المبدئية لهذه الصورة، برفضٍ لكلّ ما هو متعارف عن المجتمع الجزائري، وذلك من خلال رواية "ميرسو، تحقيق مضاد"، التي أرادها الروائي مراجعة نقدية لرواية "الغريب" للأديب ألبير كامو؛ الحائز على جائزة نوبل للآداب. وقد طمس فيها ملامح "العربي" بعد مقتله في ضواحي العاصمة الجزائرية، على يد بطل روايته "ميرسو" الموصوف بالغريب.

هذه الملامح المجهولة للعربي كانت مثار حديث النقّاد والمهتمين بالأدب على مدار عقود، إلى أن دفعت بالبعض لإدراج أدب ألبير كامو تحت مظلّة "العبثية". الأديب الجزائري كمال داود نسجها من جهته بإبداع أدبي متقن، ومراجعة تاريخية محكمة؛ حملت في طيّاتها الكثير من الازدراء للواقع الجزائري. فعلى لسان بطل الرواية "هارون"، أخي الضحيّة المغتالة في رواية "الغريب"، تُقدّم للقارئ صورة عن بطل رافض لمجتمعه، ثائر على العادات والتقاليد، يقدح صوت الأذان تارة، وينبذ يوم الجمعة تارة أخرى.


شأنه شأن "غريب" ألبير كامو، مثلما أشار إلى ذلك المترجم والناقد الألماني شتيفان فايدنَر في مقاله "نهاية السلطة الأبوية في الجزائر": الراوي الجزائري أيضًا هو غريب في مجتمعه، ومدمن كحول يكره أمَّه".

كلاهما كان كارهاً مهملاً لأمّه، يشعر بالممل يوم العبادة (الأحد  الجمعة)، علاوة على ذلك، نجد "ميرسو" يردّ راهبًا كان قد نصحه باللّجوء إلى الدّين لدى زيارته لزنزانته، ونرى هارون بدوره ينْهر إمامًا يشير عليه بالبحث عن العزاء في الدّين بعد اقترافه جريمة القتل. هنا يجدر أن نتساءل: هل كان كمال داود يريد أن يرسم معالم لصورة جزائرية مطابقة للغرب وبالأخص للمجتمع الفرنسي، حيث تجد نصوص الكاتب استحسانًا واسعًا؟

ظاهريًا يبدو أن كتابات كمال داود تنحو هذا المنحى. فعقب رواية "ميرسو.. تحقيق مضاد" بدأت صورة "جزائر كمال داود" تتشكّل من خلال نصوصه الصحافية، فنراها رافضة بصفة انتقائية ومنتقدة بشدّة لزيارات دبلوماسية رسمية، مثلما كان الحال عند زيارة أردوغان إلى الجزائر سنة (2018).

ثمّ نراها من خلال مقال عنونه الروائي: "نورية بن غبريط: وزيرة في مواجهة الإسلاميين"، في قالب صدام كاريكاتوري قديم، بين كلّ ما هو إسلامي ظلامي وما هو لائكي مستنير، ومن ثمّ نراها في صورة متناقضة تنفي الثقافة العربية الإسلامية عن شريحة كبيرة من المجتمع الجزائري وتصفها بالمستعْمِرة، في حين تنسب لشريحة فرانكوفونية، شرعيّة ثقافة استعمارية أخرى - إن اتبعنا طرح كمال داود - وتصفها بالتحرّرية، أي كلّ ما هو مُوجّه من قبل الإعلام الفرنسي، ومستهلك من طرف الرأي العام الفرنسي، ليغض الطرف عن همومه ومشاكله اليومية المتأزّمة.

وما يعزّز هذا الطرح هو الفيلم الوثائقي الذي أنتجته مؤخرًا إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية، وأطلقت عليه "جزائر كمال داود"، أين نرى الروائي الجزائري يتنقّل بين أرجاء مناطق الغرب الجزائري، في رحلة بحث وحنين إلى الماضي الاستعماري، داعيًا للتصالح مع بعض صوره، كتصنيع النبيذ وإحياء رمزيته.

ثم يركّز الفيلم على استدعاء ذاكرة الدم العالقة في المخيال الجزائري، صانعًا من صاحب رواية "زابور أو المزامير" بطلاً، واجه بقلمه في وقت مضى الإرهاب، في حين كان زملاؤه من الصحافيين يقتّلون ويشرّدون، في خطوة لشرعنة أفكار المعني بهذا الوثائقي، لتقدّم في الأخير للمشاهد الجزائري صورة نمطية عن بلده، دون أدنى مساءلة لجزائر التي يريد، وعن نسمات التجديد المنتظرة.

لا شكّ أن كامل داود يمثّل اليوم قامة فكرية وأدبية لا يمكن تجاهلها، بل يستوجب الاستفادة منها لما تطرح من أفكار واقعية، مثلما هو الحال مع بعض الحرّيات الفردية غير المؤدلجة، والجرأة النقدية للواقع المعاش. غير أنّ الصورة المتآكلة، التي تمجّد كلما هو آتٍ من الغرب وتدعو لاتباعه في أدقّ تفاصيله وحيثياته يتضح يومًا تلو الآخر أنّها غير صالحة ولا قابلة للتطبيق في بلد كالجزائر، يحمل وراءه تاريخًا مشعّبًا وتراكيب اجتماعية وثقافية تختلف في جوهرها عن تلك التي في غيره من البلدان.