في نص غريب مبكر من كتابه "كرم على درب" يتحدّث ميخائيل نعيمة عن الحرية والثورة فلا يجد مثالاً توضيحياً على ذلك إلا بحكاية من عالم الحيوان. وفيها أن الثيران تنادت للنظر في شأنها مع الإنسان للتحرّر من نيره. وأن أحد تلك الثيران بهر الكل بحماسته وشعره، وراح يهتف بهم أن الحرية تُؤخذ ولا تُعطى. وأن بابها لا يقرع إلا بقرون مخضّبة بالدماء. فاتخذوه قائداً لهم، ومشوا وراءه صاخبين: "إلى الحرية.. إلى الحرية"، وما زال بهم حتى بلغ بيتاً جدرانه وبابه مضرجة، فقال لهم: "هذا بيت الحرية. لا ترتدوا عنه وإن تكسرت قرونكم، وسالت دماؤكم أنهاراً". فما كان من الثيران إلا أن امتثلوا لأمر زعيمهم، فتكسرت قرونهم، وسالت دماؤهم، ولكنهم في النهاية حطموا الباب، ودخلوا البيت، فإذا بهم في المسلخ.
تبدو الحكاية غامضة، وملغزة، بحيث قد يقف القارئ متسائلاً في ما إذا كان نعيمة في تلك الأيام ضد الثورة، والحرية، أو معها. غير أن قراءة الوقائع في التاريخ - وفي تاريخنا المعاصر كله - تثبت أن أفظع التناقضات، وأكثرها خطراً على المقهورين إنما تتمثل في سرقة الثورات، أو في ما يمكن أن نسميه عقود الإذعان التي يسلّم الثائرون بموجبها أقدارهم ومصائرهم إلى أولئك الذي يعتبرون أن الثورات طريق إلى السلطة، لا إلى الحرية. أو في تلك الأساليب البلاغية التي يتمكن من خلالها أصحاب الشعارات من تبوُّؤ مواقع القيادات.
كان المربّي البرازيلي الراحل باولو فرايري صاحب كتاب "تعليم المقهورين" يقول: إن أولئك الذين يكتفون بالشعارات والبيانات، بدل الحوار مع المقهورين، إنما يحاولون أن يحققوا الحرية بوسائل التدجين. وقد استمد فرايري آراءه من واقع التعليم، ووسّع دائرة أفكاره كي تشمل العمل الثوري كله. وكان أكثر ما يحذّر منه هو استعارة الحلول. والاستعارة قد تكون ناجمة عن قصور الفكر الثوري وتردد القادة، أو ناتجة عن العجز والتبعية والالتحاق بمشاريع الآخرين على الأرض. وفي الحالة الأولى ينجم الحل المستعار عن ترهل القيادات واستعجالها، دون فحص السياق التاريخي للبلاد، أما في الثانية فإن سمة الحل الرئيسية هي غياب العامل المحلّي تماماً.
وأكثر ما يؤكد عليه فرايري هو الحوار بين المقهورين، فمحاولة عرقلة أي حوار، تحت أية دعوى، هي في حقيقتها خوف من الحرية، هذا عدا أنها تعكس انعدام الثقة بالناس، أو بالجماهير، حسب المفردة المحبّبة إلى قلبه.
ثمة أمران يقفان في طريق المقهورين إلى الحرية، الأول منهما سببه استقواء القهر الطويل على تفكيرهم وعواطفهم. بحيث يمكن أن يضرب رجل البوليس المواطن حتى يجعله يجثو على ركبتيه، بينما لا ينتقم هذا المواطن إلا من أول بادرة تبدر من أحد مواطنيه.
أما الثاني فهو إن أية محاولة لتحرير الناس من الظلم والقهر، لا تسمح للمقهورين بالمشاركة الفعالة في صنع مصيرهم عبر الحوار، تعني أن أولئك الذي يزعمون القيادة، لا يزالون يعاملون البشر المقهورين على أنهم مجرّد أشياء يجب أن يخرجوها من مبنى محترق بطريقة ما.