عقل في المغرب خارج السياق

13 يناير 2020
+ الخط -
تسعى السلطة في المغرب إلى الإسراع في عملية تجفيف بقايا الربيع العربي، وإعادة ضبط وتيرة الإيقاع في البلد على ما قبل عام 2011. فسياسة إعادة رسم الحدود، ووضع الخطوط الحمراء التي انطلقت منذ أواخر عام 2013، توشك على بلوغ مراحلها النهائية، بعد نجاحها في هندسة كل الجبهات السياسية والاقتصادية والإعلامية، باعتماد ثنائية الترغيب والترهيب. وأعطت سياسة التدجين ثمارها سريعا، حيث تم تطويع النخب في مختلف الحقول بسهولة، فلا يكاد يُسمع لها موقف تحفّظي، ولا رأي نقدي بشأن الأوضاع في المغرب، إلى درجة يصعب فيها تمييز خطابها عن الخطاب الرسمي لرجال الدولة. وليس من المبالغة في شيء القول إن الدولة، في شخص المؤسسة الملكية التي يفترض فيها المحافظة بحكم موقعها، أضحت أكثر جرأة وشجاعة في تعاطيها مع قضايا شائكة عديدة في البلد (النموذج التنموي، الثروة، إصلاح الإدارة...).
في هذا الخضم، تصرّ ثلة من الديمقراطيين (سياسيون، مثقفون، حقوقيون، إعلاميون...) على مقاومة الردّة، وإعلان التمرد على سياسة الإخضاع، ممعنين في السير نحو استثمار تلك البقية الباقية من هوامش الربيع العربي في المغرب، في معركة الحرية والانتقال الديمقراطي، ومواجهة الاستبداد بفضح الفساد والمفسدين. كان هذا ديدن الصحفي المغربي المستقل عمر 
الراضي الذي تم اعتقاله، بسبب تغريدة نشرها على موقع تويتر، في إبريل/ نيسان الماضي، ندّد فيها بالأحكام القاسية الصادرة في حق نشطاء حراك الريف. وتم تكييفها، وفق مقتضيات القانون الجنائي المغربي، أنها إهانة للسلطة القضائية.
جاءت استعادة تغريدة مضى على نشرها تسعة أشهر من أجل إضفاء الحدود الدنيا من المشروعية على الملف، على الرغم من إدراك الجميع أن دواعي الاعتقال والمتابعة أبعد ما تكون من مجرد تدوينة، فسجلّ هذا الصحفي حافل بالتحقيقات الاستقصائية، من قبيل فضيحة خدام الدولة، وتحقيقه حول المستفيدين من مقالع الرمال، والاختلالات الكارثية في البرنامج الاستعجالي للتعليم، وتغطيته الميدانية أغلب الاحتجاجات التي عرفها المغرب المنسي.
تؤكد هذه المتابعة عودة السلطة إلى أسلوب الانتقام من كل الأصوات المنتقدة، خصوصا مع تزايد عدد النشطاء والمدونين المتابعين، والتضييق على شعارات الجماهير الرياضية (الألتراس) في الملاعب، بسبب جرأتهم الزائدة في توجيه سهام النقد إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ويتأكد معها إصرار السلطوية على الاستمرار في مسلسل التراجعات، من أجل مواجهة آثار الربيع العربي، في وقتٍ بلغ فيه الاحتقان الاجتماعي داخل البلد مستوياتٍ قياسية. وتقطع مع ما يرُوّج من تخمينات عن قرب انفراج سياسي في الأفق، استنادا إلى بعض القرارات التي تم تأويلها، من المتفائلين جدا، كبداية من الدولة لوضع حد لهذا المسلسل القاتم.
رأى بعضهم في واقعة العفو الملكي، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، عن الصحفية هاجر 
الريسوني وخطيبها اللذين دينا بالسجن عاماً؛ بسبب "الإجهاض" و"إقامة علاقة خارج إطار الزواج"، في قضيةٍ سياسيةٍ أّلبِست لبوسا جنائيا راج حولها الكثير، مبادرة تعلن عن شروع المؤسسة الملكية في تنفيس الأجواء، وتخفيف منسوب الاحتقان الذي يجتاح تعبيراته البلاد طولاً وعرضاً؛ من الشوارع العامة والأغاني الشبابية حتى الملاعب الرياضية.
وجاء قرار تعيين الملك محمد السادس لجنة خاصة؛ تضم خبراء من مجالات متنوعة (الاقتصاد والأنثروبولوجيا والطب والقانون والمقاولات) من أجل صياغة نموذج تنموي جديد، يتوقع منه أن يرسم معالم إقلاع البلد على كل الجبهات، بعدما فشل النموذج السابق في تحقيق ذلك، باعترافٍ من أعلى سلطة في الدولة، ليعزّز من فرضية الاتجاه نحو تنفيس الأوضاع العامة في المملكة، واستعادة عنصر الثقة المفقودة بين الدولة والمجتمع، تمهيدا للمرحلة الجديدة التي حدّد عاهل البلاد مقوماتها في خطاب العرش، في يوليو/تموز الماضي، وجدد التأكيد على انطلاقتها، قبل ثلاثة أشهر، في خطابٍ أمام ممثلي الأمة في البرلمان.
يبدو أن استراتيجية العقل السلطوي الموكول إليه مهمة إغلاق قوس الربيع العربي، وتدبير مخلفاته في المغرب، لا تعير اهتماما للإشارات المتواترة في الداخل المغربي؛ مهما كان مصدرها ومضمونها، ولا تبالي بالنقاش الدائر بشأن التنمية والقضايا الكبرى في البلاد. كما 
تغيب عنها متغيرات السياقين، الإقليمي والدولي، بدءا بمجريات الأوضاع في الجارة الشرقية الجزائر، مرورا بتطورات الأحداث في تونس والسودان، وصولا إلى اهتزاز أنظمة طائفية كالعراق ولبنان في المشرق. يضع مهندسو هذه الاستراتيجية البلد خارج سياق التاريخ والجغرافيا، بعد الحكم على تلميذين قاصريْن؛ أيوب من مكناس وحمزة من العيون، تباعا، بثلاث وأربع سنوات سجنا نافذة، بسبب تدوينات في شبكات التواصل الاجتماعي أو ترديد أغان، بعد أن وُجهت لهما اتهامات لا يدركان مضمونها بسبب غياب النضج الإيديولوجي. ويضعون المؤسسة الملكية في مواجهةٍ مباشرة مع الشعب، بعدما نجحت خطّتهم في تجريف المشهد العام في البلد، والإجهاز على كل النخب وهيئات الوساطة التقليدية.
ما سبق يجعل نجاح أي خطوة أو مبادرة في المغرب معلقا على شرط كبح جماح العقل السلطوي الذي يزيد من حدّة الاحتقان السياسي والاجتماعي. فلا أفق لأي مشروع إصلاحي أو مخطط تنموي في أجواء سِمتها الخشية والخوف والرهبة. لذا ما انفكّ العقلاء في البلد ينادون بوقف هذا التقهقر، حتى لا تتكرّر مأساة الماضي في مغرب الحاضر.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري