عصافير على قِمم الجمّيز

22 يونيو 2016
نبيل عناني / فلسطين
+ الخط -

في اللغة العربية، ثمّة فرق جوهري، بين الدار والمنزل. في حين أن المنزل بوسعه أن يكون فندقاً، أو استراحة مسافر، ليس بوسع الدار أن تسمى داراً، من دون بئر وشجرة جمّيز.

إنها حكاية قديمة، تعود إلى عشرات السنوات. في ما بعد، أصبحت أسطورة، تتردد في عائلتنا، من جيل إلى جيل: قام جدّي بقطع عدّة أغصان من شجرة الجميز، وغرسها حول الحديقة، ليصنع منها سياجاً يحمي الدار وأهله، صارت العُصي مع الوقت أشجاراً، إذ امتدت جذورها عميقاً في الأرض.

لكنّ السياج المصنوع من أغصان الجمّيز، لم يمنع "اليهود" كما قال، من اقتحام الدار. لم يصمد أمام الدبابات والأسلحة الثقيلة، ففسح المجال للأعداء بأن يدخلوا، بيد أنه لم ينكسر. بالفعل، ما زال صفٌّ من أشجار الجميز يحيط بدارنا المهدّمة، شاهداً على الأسطورة وصدق جدّي.

طالما قال لي: لدينا هناك بئر وأشجار جمّيز. ولما كنت أسأله عن ماهيّة هذه الشجرة، كان ينظر بعيداً ويقول بأنها أطول شجرة قد رآها في حياته: صلبٌ خشبها، دائمة الخضرة، وثمارها خضراء تستحيل إلى الوردي حين تنضج، حلوٌ مذاقها، وتشبه ثمر التين.

لم أكن أعرف، قبل ذلك، بأنه شاعر. لقد كان يرى في الشجرة، جزءاً من حلم أكبر، اسمه العودة.

"العصافير تقف على قمم أشجار الجميز"، إنه ليس عنوان قصيدة، أو اسم لوحة، رغم أنه يليق بذلك. إنها العبارة التي قالها الجد، الذي لديه الآن قبيلة من الأحفاد، حين سمع بزقزقة العصافير عند باب المخيم، وهو مصاب بالحمى. حاولنا إقناعه ألا أشجار جمّيز في الغربة، بل صفيح وأمنيات ودموع، لكنه ظلّ يردد تلك العبارة، كلما سمع زقزقة العصافير.

في آخر حياته، كان يشغل وقته بروي الحكايات (تنشيط الذاكرة)، إضافة إلى ممارسته اليوميّة، بترديد لفظة "جمّيز" على سَبحته. خيّل إليّ أنها شجرة من الجنة، حلوٌ ثمرها، وفيها شفاءٌ للناس، لكنها كانت السبب في موت جدي بالحسرة والألم.

صنعنا له تابوتاً من خشب الجميز، وفي داخله نثرنا عدداً من أوراقها. لقد قضينا حياتنا، نحلم بالعودة، إلى ذاك النوع من الأشجار، الذي يحيط بدارنا، ولم نعد.


* كاتب من فلسطين

المساهمون