عشرة على عشرة يا شاطر

28 مايو 2015
+ الخط -
سلمُ الدرجات والعلامات المدرسية في طفولتنا يماثل تماما سلم العلامات الموسيقية، فالدرجة الأولى (عشرة) هي دو الجواب، اكتمال النغمة وتناسقها، والدرجة الأدنى من الخمسة وما تحت تعتبر نشازاً ومدعاة للسخرية، كما لو أن إحداهنَّ جيء بها إلى مسابقة للأغنية وصارت تخور، في حين لم تكن بموهبتها تجاوزت الحمام واللمة الضيقة جدا من آل بيتها. لقد تعودنا كتلاميذ أن نحمل في نهاية الفصل الأول من الدراسة جلاءاتنا/ صحائفنا ونركض بها إلى الأهل إذا كنا في مرتفع السلم، مؤملين النفس بما وُعدنا من هدايا وتشجيع. وعلى العكس من ذلك إذا كنا في الدرك السفلي من السلم، خبأنا الورقة أو تركناها في مقاعدنا، بحجة أنها ضاعت أو المعلم منعها عنا لوجود خطأ فيها، ثم ما تلبث المكائد الصغيرة بيننا تفعل فعلها، لتنكشف الأمور على أهلنا، فيوبخوننا بداية ويرغبوننا، فيما لو أن الفصل الثاني حمل ما يفارق النتيجة هذه فإن العطايا ستكون جزلة، أي أن جولة أخرى في طريق الهبات ما زال يمتدّ أمام من خانته عزيمته وذكاؤه وحبه للتعلم. ليحرثَ في العقلِ ويجدَّ كلُّ من فاته قطار الحظوظ والجهد، فلا يقال لهُ في المحصلة: "فاتَكم الغطار.. فاتكم الغطار".

مفردة (سلم/ الدرج) أحالتني إلى السلم بكسر السين بوصفها ضد الحرب، وكذا أحالتني الكلمة نفسها إلى الحرب نفسها، إذ لا حرب نقية وإلى جانب صفاتها الكثيرة وخصالها غير الحميدة صفة القذارة والانتهازية، وربما جملة "الحرب خدعة" الشهيرة، تلخّص بيسر الحمولة اللاأخلاقية لها، إذا عرفنا أن الخدعة هي الكذبة وأدهى قليلا. لكن يبدو أن من أطلق العنان للجملة آنذاكَ قادته ظروف معينة لقولها وفعلها ربما تم ذلك في حقل مفاضلة بين طرفين، فكان ما جاء به الطرف صاحب المقولة نبيلاً ومبرراً، وإلا فما المبرر من تداولها بعد كل هذه الحقب من السنين والحفريات في التاريخ الأسود لشعوب ابتليت ابتلاء بالحرب، ورأت فيها فعلاً مقدساً لا بد منه. يقول أحد مهندسي الحرب الذرية ومنظريها بما معناه أن السلم مرعب، بقدر ما أن الحرب مرعبة، في إشارة إلى أن الانفتاحات على المشاكل يتم وقت الطمأنينة المفرطةِ. وإذا كانت الحرب تأكل أبناءها بالنار والحديد والمكيدة، فإنهم في السلم عرضة لشرور كثيرة، منها شرور أنفسهم "الأمارة بالسوء".

أعود إلى الصحيفة المدرسية، الفكرة التي بدأت بها. قبل أيام أغلقت المدرسة السورية أبوابها متجهة بأولادها إلى ما يسمى عرضاً ومداورة بـ(العطلة الصيفية)، من المعروف أن قلة هم الذين تسنّى لهم طلب العلم، العلم الذي يكون في الحي نفسه، فيبدو كما لو أنه في الصين البعيدة، ويصبح المثل ذائع الصيت (اطلبوا العلم ولو كان في الصين) أهون من القول اطلب العلم وإن كان في المدرسة التي تبعد عنك شارعين وثلاثة بيوت. ومع هذا انهالت علينا صور أطفال إلى جانب صحائفهم وعلاماتهم (العشرة على عشرة) وبابتسامات عريضة منهم ومن أحاط بهم، لتلقى الصور الكثير من عبارات المباركة: "مبروك وبالتوفيق وعقبال الجامعة ومرحى وهللويا وطوبى"، ووعوداً بالهدايا تشبهُ الوعود التي كنا نسمعها عندما كنا تلاميذ وتشبه التي قلناها ونحن آباء، ولم يف لنا آباؤنا بمواثيقهم الشفهية، فحنثنا نحن أيضا مع أبنائنا، وكأن في هذا شكلا من الانتقام المضمر من الزمن ومن تاريخنا الشخصي.

من الصور التي جاءتني، صورة لقبس الطفلة في السادس من المرحلة الأساسية، كانت قضت الثلاث سنوات الأولى في دير الزور قبل أن ترتفع قذيفة هوجاء إلى شرفتها وتعلقها من أحشائها على معدنِ الشرفة، فتهجر المكانَ صوب القامشلي، تنظرُ إليها أمها بعيون دامعة وفرحةٍ، أما هي فتتظاهر بحركة أخفُّ من حركتها الثقيلة بعدَ الضربةِ الفاجعة، ترفعُ قبس شهادتها عالياً، وتحلمُ بأن تعودَ إلى تلك الشرفة التي هجرتها قسراً، لتنظر منها إلى أصدقائها وهم يلعبون في الشارع الضيق. محمد وآية ونور أبناء أخي الأصغر، يتعلمونَ في المدرسة الأرمينية، أرسلوا صورهم مع قطع من الكرتون المقوى كتب عليها: مرحى. كنت وعدتهم بثلاث دراجات هوائية فيما لو احتلوا المراكز الأولى، وقد فعلوا، أنا مدين لهم بذلك، وأجّلت الوفاء بالوعد، بحجةِ أن الشوارع غير آمنة ولا تصلح لقيادة الدراجة. ريفان وجان ولدا جاري، يتقابل بابا بيتينا في الطابق الثاني من مساكنِ المعلمين، وصلتني صورهما مع ابتساماتهما وابتسامات والديهما، وكتب جاري: يا جار، الطفلان حازا الأول رغم مرضهما، في تلميح إلى هشاشة عظامهما التي لم تنسحب على روحيهما الجميلتين. لطيفة وحنين وماجد أبناء أحد المعتقلين من سنتين والمهدد بالإعدام لاتهامه بالانتماء إلى الجيش الحر، في حين كان ولفترة بعد اندلاعِ الثورة يديرُ محلاً متواضعا لبيع الورود وهدايا الأطفال، تقولُ أمه: "سامحَ من كادَ له ووشى به زوراً" الأطفال الثلاثة في حمص، كانت القذائف تمرُّ من فوق منزلهم مراراً، ربما الصدفة وحدها حمتهم، فلم يتأخروا عن المدرسة القريبة، ورجعوا بصحائفَ بيضاء وثناءات، في الوقت الذي كان متوقعاً أن يعودوا بارتجاجات في المخ من هولِ الأصوات الغريبة عليهم.

هذه ليست صور تنتقل عبر التقنية من مكان إلى آخر، بل هي رسائل بالغة الأهمية وواضحة كوضوحها، وحقيقتها، وفعلها الذي ترومه، رسائل تقول الكثير، ومن جملة ما تقول: السوريون صانعو حياة. وما هذه الطفولة الفرحة بنهايات عامها الدراسي إلا إشارات بالغة الدلالة على أن الإعمار في النفوس قد بدأ، قبل أن تبدأ حملة إعمار البيوت. الأرواح أبقى من الحديد والإسمنت سيقول قائل.

(سورية)
المساهمون