عسكرة النقد

08 فبراير 2019
فارس قرة بيت/ سورية
+ الخط -

شهدت فترة سبعينيات القرن الماضي اشتداد المعارك بين أنصار الواقعية وأعدائها في الأدب العربي. وفي تلك السنوات، اعتبر عددٌ من النقّاد، الذين لا ينتمون إلى اليسار في الساحة السورية، أن الواقعية منهج يساري محض، وأن تَبنّي المنهج التزامٌ حزبي. وقد استُخدمت النماذج العادية أو الرديئة في القصّة والرواية والفن التشكيلي (وهي نماذج موجودة في كلّ الآداب والفنون) للتمثيل على انحطاط هذا الخيار.

غير أن النقّاد المناصرين للواقعية لم يقصّروا في خلق المحاجر المعادية للكتابة غير الواقعية، وكانت أفظع تهمة يمكن أن تُوجَّه للكاتب "غير الواقعي" هي أنه يعبّر عن هموم البرجوازية أو الإقطاع أو الأرستقراطية أو البرجوازية الصغيرة، وهي الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي كانت تُعتَبر أم الشرور. وقد استبعد فنّ الكتابة، في الإنتاج الروائي والقصصي للكتّاب الذين كانوا موضوعاً للدراسة، ولم يكن له أي دور في تقييمهم النقدي.

وصُنّف عبد السلام العجيلي وهاني الراهب وزكريا تامر كممثّلين للإقطاع والبرجوازية الصغيرة، بينما حظي حنا مينه بتمثيل الطبقة العاملة. ولم يكن حال الكتّاب غير العرب أفضل بالطبع، فمن الصعب أن يقتني القارئ كتاباً لـ كافكا، لأنه يكتب عن الكوابيس، أو بروس لأنه يكتب عن الزمن المفقود، أو جيمس جويس الثرثار الذي يكتب مليون كلمة ليصف ليلة في حياة شخص واحد لا قيمة له، دون أن يكون قد اتُّهم من قِبل أحدِ رفاقه بالميل إلى إحدى الطبقات التي تعادي العمّال.

كان النقّاد كافةً قد قبلوا أن يعسكروا النقد، على غرار الساسة، وراحوا يلتحقون بآرائهم في التصنيف. فلم يعد بالوسع قبول التعايش، وبدا في إحدى المراحل كأن الواقعية هي الوجه المقابل لمعسكر الاشتراكيّين. ففي الموسوعة الفلسفية التي كتبها عددٌ من العلماء السوفييت، نقرأ هذا التعريف: "الواقعية النقدية مدرسة ومنهج يتّجه نحو كشف شرور المجتمع البورجوازي والتغلّب على تناقضاته".

كما نقرأ تعريفاً يقول إن السريالية تعبير عن أزمة المجتمع الرأسمالي، وأن كلّاً من ت. س. إليوت وكافكا وجيمس جويس من ممثّليها البارزين، وسوف تُصنَّف جميع المدارس الأدبية والفنية الأخرى في خانة التأييد للمعسكر الرأسمالي.

كان كتاب روجيه غارودي "واقعية بلا ضفاف" قد تُرجم إلى العربية، ونُشر في مصر في عام 1968، ولم يلق أصداء لدى النقّاد الواقعيّين، ولا لدى خصومهم. وفي الكتاب توسيعٌ لمفهوم الواقعية بحيث تشمل شاعراً مثل سان جون بيرس، وفنّاناً مثل بيكاسو، وروائياً مثل كافكا. وفي هذا الكتاب قال غارودي إن بيكاسو لم يشوّه الواقع، بل أثبت أن من الممكن خلق واقع آخر بقوانين أخرى، وقال أيضاً إنه قد استنبت فروعاً جديدة على شجرة الواقع، وما ذكره غارودي في الستينيات من القرن العشرين عن بيكاسو يبدو اليوم من البديهيات العادية لدى جميع مدارس النقد.

كان الشاعر أراغون، الذي كتب المقدمة، قد قال: "لقد تصوّرنا أن عالم كافكا نتاج خيال سقيم، فإذا به يصبح مطابقاً للواقع التاريخي".

المساهمون