يبدو أن متابعة صيرورة نشوء العلمانية ومناخات صعودها الفكرية والثقافية، إضافة إلى تقديم رؤية نقدية، فرضت أن يكون الجزء الثاني بهذه الضخامة (مجلد أول من 900 صفحة وثان من 500 صفحة). وإن الصعوبة التي تنشأ أمام هذا الوضع، للكاتب والقارئ في آن، حاول المؤلف أن يتجاوزها بمنهجية طرح وتبويب تسعف القارئ؛ حيث أن كل فصل يسبقه ملخص لبنيته، يشكل خريطة قبل دخول متاهات التقصي التاريخي وتتبّع التطوّر البطيء للعلمانية.
يصف بشارة عملية التطوّر هذه بالمسار "المتعرّج وحتى اللولبي والحلزوني لتطوّر الفكر الأوروبي في ما يتعلق بمقاربة العلاقة بين الدين والعلم والسياسة"، وكأنه بذلك يشير إلى القارئ أن يتعوّد على المشي على حبلين: تطوّر الأفكار في إطار ديني من جهة، وعملية دنيوة الفكر الديني (جعله دنيوياً) من جهة ثانية، حتى الوصول إلى زمن ظهور ثقافة منفصلة عن الدين.
يدرس المؤلف آليات هذا التطوّر، إذ يقول "إن هذه العمليات لا تتم كعمليات انفصال وحسب، بل كوحدة وتمايز وانفصام، ووحدة من جديد". وهو ما يتطابق مع الفرضية التي انتهى بها الجزء الأول من العمل، كون المجال العلماني في الحداثة صار هو الذي يعرّف المجال الديني، أي يحدّده. ويشير: "هذه ليست قرارات أو مواقف وإنما عملية تطوّر تاريخي". هكذا، يؤكد لنا ضمنياً أن كل مرحلة في التاريخ بات استحضارها ضرورياً لفهم ما يحدث اليوم بما هو نتيجة لهذا التطوّر.
تمثل الكنيسة مؤسسة محورية لفهم العلمانية. ينظر بشارة إليها كنمط تلاقي الجماعة الدينية المسيحية مع البنية الإمبراطورية الهرمية للكيان السياسي الروماني. ويلاحظ المؤلف أن المسيحية "لم تُنشئ دولة على عكس الإسلام واليهودية بل تغلغلت في كيان سياسي قائم هو الإمبراطورية الرومانية"، فقد "نشأت منفصلة عن الدولة الرومانية ثم ورثتها بعد ذلك". وفي لحظة ما من التاريخ، تحوّل ثراؤها ونفوذها إلى "بيئة ترعى ثقافة دنيوية في موضوعاتها وتوجّهاتها".
يمرّ هذا التطوّر بمرحلة الحروب الصليبية، التي بدأت كرد فعل على توسّع المسلمين، قبل أن تتحوّل إلى طموح بتوحيد أوروبا خلف فكرة دينية. ويمثل احتلال القدس عام 1097 لحظة فارقة، حيث اكتشفت أوروبا "أوروبينتها المسيحية" حين التقت بالمسيحية الشرقية، وهي لحظة لـ"تديين السياسة" والتي عنت، أيضاً، "دنيوة الدين أي بعبارة أخرى علمنته".
ففي إطار فشل الحروب الصليبية، بدأ الملوك ينازعون سلطات الكنيسة التي استخدمت التآمر السياسي، ما أيقظ نزعة مضادة لها، تحت غطاء استنكار ثروتها وأبّهتها، وهكذا "انتشرت الكراهية للباباوية منذ أن أصبح لها خصوم سياسيون".
توافق التململ الملكي ثم الشعبي من هيمنة الكنيسة، مع بداية الصراع بين منطق النظام الرأسمالي (ظهرت بواكيره في المدن الايطالية) مع الأسس الأخلاقية والفكرية التي تفرضها الكنيسة، مثل قواعد الاقتراض واستعمال اللغة اللاتينية.
وضمن هذا الصراع بدأ عصر النهضة، الذي كان مرحلة مهمّة لظهور التمايز بين العناصر الدينية وغير الدينية في الصيرورة التاريخية، مع انطلاق عملية علمنة الفكر السياسي مع ميكيافيلي الذي تصوّر السياسة مجالاً دنيوياً منطلقاً من عجز البابا عن توحيد إيطاليا ومتوجّهاً إلى "الأمير" كي يقوم بذلك.
كل هذه العوامل، وأخرى، احتضنت أفكار لوثر حين ظهر في بداية القرن السادس عشر. يلاحظ بشارة بخصوصه أنه "تمرّد تقاطع مع صراع الأمراء الألمان مع البابا واستفاد من ظهور الطباعة، ثم إن مأسسة مذهبه أدت إلى تطوّره لاحقاً". ويقول "ما فعلته البروتستانتية ليس إضافة نظرية فلسفية بل هو دنيوة الدين وإدخاله في حياة الناس اليومية كأخلاق ونمط حياة، وليس كشعائر وكتنفيذ لتعليمات الكنيسة فحسب".
قادت البروتستانتية التحوّل إلى كنائس وطنية محلية، وهذه الكنائس ساهمت في نشوء الهويات الوطنية. يستخلص المؤلف هنا بأن "سياق نشوء العلمانية هو نفسه سياق نشوء الدولة الحديثة التي تتفوّق على المؤسسة الدينية وتسيطر على الدين وتحتكر العنف".
وقد فتح هذا الجدل مجالاً للتنظير لإعلاء شأن الدولة على الكنيسة، وفي الإطار نفسه طُرح التسامح الديني بديلاً عن الإكراه. قبل أن يتحوّل التسامح، الذي هو مبدأ ديني، بعد قرون إلى الحرية الدينية، وهو مبدأ علماني.
لا ينسى المؤلف، وهو يتتبع هذه التطوّرات، الإشارة إلى مؤثرات أخرى في عملية التطوّر، كالمواقع الجديدة التي احتلتها ميادين العلم والفلسفة والاقتصاد والتاريخ السياسي الديني (أصبحت هناك دول كاثوليكية وأخرى بروتستانتية) إضافة إلى ظهور اكتشافات جغرافية وفئات اجتماعية (الموظفون، العمال ...). وهذه التطوّرات المتوازية يستعملها ليفسّر بها الانتقالات المرحلية في التاريخ من النهضة إلى التنوير إلى الحداثة، موضّحاً المبدأ الذي يؤدي إلى تجاوزها، باعتبارها "مصوغة من فكر جاهز يسبقها وفي الآن ذاته مولدة لنقيضها".
في المجلد الثاني من الجزء الثاني يشير بشارة إلى تحوّل آخر من تحوّلات العلمانية بانتقالها من سياق الجدال المسيحي إلى سياقات أخرى، وهو ما فرضه الاستعمار وعمليات التحديث الذي خضعت له المجتمعات. يرى بشارة أن "حلبة الصراع الرئيسة كانت عملية التشكل القومي للشعوب والدول" وقد حكمت على هذه المجتمعات أن تعيش على ثنائية "الديني والحداثي".
يستغل المفكّر العربي هذا الحديث ليتطرّق إلى انعكاس العلمانية في العالم العربي، حيث بدت "نسخة غير دقيقة ومشوّهة أو درجة ثانية من العلمانية الأوروبية". يفسّر ذلك بتقبّل العرب للعلمانية "وفق خلاصتها المفهومية، لا وفق فهم تاريخها المُعقد"، وهو ما تصدّى له بنفسه في هذا المشروع، أي أنهم "أخذوا العلمانية كتجربة ناجزة معطاة لا كتجربة يجري إنجازها وفق الشروط التاريخية للمجتمعات". وهذه هي زاوية النظر التي سيتناولها بأكثر تفصيل في الجزء الثالث من الكتاب.
زعزع نسق الاكتشافات العلمية الدين كمقاربة تفسيرية للطبيعة والتاريخ، وطالت أيادي المفكرين "العلمانيين" المجال الديني فعرّضته للمنهج العلمي والريبية النقدية وبالتالي قامت بعلمنته. في الأثناء، مكّن العلم أيضاً من إنتاج أدوات سيطرة في يد الدولة على المؤسسات والناس والطبيعة، فضاعف من هيمنتها.
نقف مع بشارة على لحظات من التفكير الفلسفي العميق حين يتساءل "أليست الحرية ضحية أخرى للتفسير العلمي السببي للكون؟" ويرى أن "انسحاب الدين وقدريّته من تفسيرات الكون لا يعني بالضرورة أن مجال الحرية قد فتح، فالإشكالية تعيد إنتاج نفسها بسبب حتمية سريان القوانين الطبيعية على الإنسان أيضاً". يتولد عن السؤال الأوّل سؤال ثان "أين هو المجال المتبقي للحرية؟". هنا يعتقد أن الإنسان بوسعه خلق أسباب لم تكن قائمة في السلسلة السببية، كأن يخلق للأشياء قِيماً.
إن هذا الكتاب يضرب في كثير من المواقف "التفاؤل المعرفي"، ذلك الاعتقاد بأن المعرفة العلمية تضمن حل المشكلات وذلك انطلاقاً من قناعة بكون المشكلات تنبع في أغلبيتها من الجهل والخرافة. ويقول "ليس الجهل وحده هو المشكلة، بل الجهل الذي يتظاهر أنه الحقيقة هو الذي يصيب الحقيقة في مقتل. وهو ما لا ينطبق على المعرفة وحدها، بل على الإيمان أيضاً، فنقيض الإيمان ليس عدم الإيمان وإنما الخرافة، تلك التي تنبت على جذور الإيمان ذاته وتجففها".
ضمن صيرورة العلمنة، يتتبّع بشارة تطوّر الأفكار وصولاَ إلى تشكّل أديان بديلة حين تمّت علمنة المجال العمومي، يشرح هذه النزعة مع أوغست كونت الذي يعتبره "تجسداً لأزمة الفكر التنويري بقيادته الجانب العقلاني فيه إلى نهايته القصوى"، أفضى لتبلور ديانات بديلة مثل الشيوعية والفاشية.
يستمرّ بشارة في هذا التمشي، حتى أنه يجد في "المادية التاريخية علمنة للخطة الخلاصية المسيحية"، وفي "فلسفة التاريخ صوغاً آخر لفكرة العناية الإلهية" و"أصبح الرقم أقنوم التنوير أي قانونه الكنسي الجديد"، ووجد في "العلم الذاهب للسيطرة على الأشياء امتداداً للسحر". كما أنتجت الحتميات والضرورات بدلاً من فكرة القضاء والقدر، ليستنتج من كل ذلك أن الفكر البشري قد "ابتعد عن الأسطورة خطوة لكنه اقترب من أساطير أخرى صنعها بنفسه".
ولتوضيح فكرته، يتخذ بشارة من المساواة مثالاً، فقد صنعت الفرد/المواطن وفي نفس الوقت "ألغته في الجمهور أو الحشد أو في المتوسط الإحصائي". وحين نقترب من الزمن الراهن، نجد أن نشوء الثقافة الجماهيرية أصبح من أهم عوامل إنتاج بدائل الدين، حيث يلاحظه في "التبعية شبه الدينية للأيديولوجيات الدنيوية وقيمها" وهو ما أحدث تغييراً جوهرياً في نمط التدين الشعبي، وهنا يعتبر أن الانتقال من نمط التدين الشعبي إلى نمط التدين الجماهيري يعدّ من أهم تأثيرات الحداثة والعلمنة في الدين نفسه.
يتساءل "هل أن ما تقدمه الحداثة من معابد استهلاك جديدة وعبادة النجوم في الرياضة والفن، هل هذه فعلاً بديل من الدين؟". يجيب بأنها نشاط اجتماعي من نوع آخر يعيد إنتاج الجماعة ترافقه مظاهر من الحماسة والتقديس، ولكنها ليست ديانات، "إنها حالات إشباع عابرة بالمقدّس". ويضيف أن "الثقافة الجماهيرية منحت في نفس الوقت الديانات التقليدية أدوات في التعامل مع الجمهور" ليستخلص أنه "إذا كان ثمة تأثير للدين في السياسة، فإنه يقع بسبب العلمنة لا رغماً عنها".
في نهاية العرض التاريخي، يقدّم بشارة تصوّره لأنموذج معدّل "أكثر تركيباً" لنظرية العلمنة، حين يعتبرها "ليست نظرية بل ميتا- نظرية"؛ بمعنى أنه لا يكفي معها التمييز بين مجال ديني ومجال دنيوي، بل ينبغي إضافة إلى ذلك التمييز بين أنماط التديّن والفئات الاجتماعية وأنواع الدولة ودرجة تطوّر المجتمعات. من هنا، فما جرى استقراؤه في التاريخ الأوروبي وتم تطبيقه على المجتمعات هناك، غير ممكن التطبيق كنظرية شاملة على كل المجتمعات البشرية.