عدوكم حليفكم!
تكمن خطورة تتبع مسار الصراع العربي الإسرائيلي في الرغبة الجامحة التي تتولد لديك، وأنت تحاول جاهداً البحث خلف الجمل المواربة التي يتقنها المؤرخون عن مكنونات الحقيقة، بإسقاط الهوية العربية عن كاهلك المثقل بالأوزار، كونك فرداً عربياً، تعيش في كنف أنظمة عربية، لا تحمل من العروبة سوى اسمها!
منعطفات خطيرة ومنعرجات محرجة، تبدأ بالظهور، منذ اللحظات الأولى، التي تطالع فيها الفصل الأول من تاريخ الصراع الذي أسدل عليه الستار، بعد ثلاثة عقود، حين عقدت أنظمة عربية قرانها على إسرائيل، وإن كان آخرون قد اكتفوا بالزواج العرفي، مراعاة لصورته المقدسة في الذاكرة العامة! فحين قررت الأمم المتحدة إعادة النظر في مسألة الإشراف الدولي على الولايات العثمانية، وهو ما يعرف بالانتداب الذي منحته عصبة الأمم للإمبراطويات الأوروبية، بعد الحرب العالمية الأولى، وجدت أن الانتداب البريطاني على فلسطين من أكثر القضايا تعقيداً، لارتباطه طبعاً بالمشروع الصهيوني، فقررت أن تجد حلاً (عادلاً) للنزاع العربي الصهيوني، فكان قرار التقسيم عام 1947 الذي أعطى 55% من مساحة فلسطين التاريخية للدولة اليهودية.
لم يكن قرار التقسيم مجحفاً، أو غريباً، للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فقد حظي القرار بموافقة 33 دولة من أصل 57، كما لم يكن غريباً، آنذاك، أن تجتمع جامعة الدول العربية، وتصدر مذكرة شديدة اللهجة لأميركا وإنجلترا، وتقيم معسكرات لتدريب المتطوعين العرب على القتال، وتكوّن جيشاً عربياً (جيش الإنقاذ) لتحرير فلسطين. لكن الغريب أن يكون قائد الجيش إنجليزياً، والأكثر غرابة أن يسقط ذلك كله برسالة واحدة مفادها: "إن بريطانيا تعتبر تسليح الفلسطينيين وتدريبهم عملاً غير ودي".
ولم يكن غريباً، أيضاً، أن يثور الشعب الفلسطيني، بقيادة عبد القادر الحسيني، الذي سقط فيما بعد شهيداً في معركة القسطل عام 1948، ولكن الغريب هو موقف اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية، الرافض للثورة الفلسطينية التي اعتبرها تصرفاً فردياً، ولم تكتف اللجنة العسكرية بهذا التوصيف، بل طالبت الثوار الفلسطينيين علانية بضبط النفس، على اعتبار أن جامعة الدولة العربية أوكلت لها، وحدها، مهمة تحرير فلسطين، وكانت جامعة الدول العربية، في حينه، قد رأت أن أي عمل عسكري سيؤدي إلى مواجهةٍ حتمية مع بريطانيا، ولم تكن هناك رغبة عربية في مواجهة بريطانيا، لأسباب واعتبارات نعرفها جميعاً.
وتتوالى الصفحات، بما تنطوي فيها من نكسات، إلى أن تطالعك صفحات مشرقة، تفوح منها رائحة الدماء الزكية التي تخطّ "الله أكبر" على العلم المصري فوق الضفة الشرقية لقناة السويس في حرب أكتوبر، كما وتطل قامة القائد العظيم الفريق سعد الدين الشاذلي، على الرغم من أنف المؤرخين المتملقين الذين حاولوا أن يشطبوا اسمه من كتب التاريخ، لأن حنكته وخبرته العسكرية تعارضت مع الإرادة السياسية المتخاذلة التي كانت تدرك جيداً ماذا تريد من الحرب، وإلى أين تريد أن تصل.. أهداف تم الكشف عنها لاحقاً، كانت كفيلة بالإجابة عن الأسباب التي وقفت وراء قرار وقف القتال المفاجئ الذي شكل صدمة للعرب عموماً، وللجبهة السورية خصوصاً، وعن تساؤل الفريق الشاذلي عن الغاية من خروج القوات المصرية خارج مظلة الدفاع الجوي، ما تسبب في تدمير لواء كامل، في مشهد مأساوي أشبه بالانتحار الجماعي!
تمر السنين، وتعبر الصفحات القاتمة إلى أن يزهق الحبر ويسود السواد.. إنها "كامب ديفيد"، اتفاقية الانهزام والاستسلام، إنه الحلم الإسرائيلي في انتزاع اعتراف عربي، إنها العقلية الإسرائيلية المحكمة التي أخرجت العرب من دائرة الصراع، إنها الطريق التي أفضت إلى رفع العلم الإسرائيلي فوق أكبر عاصمة عربية، إنها الإجابة البلهاء على التساؤل الفلسطيني: أين العرب؟
أهذا ثمن دماء الشهداء؟ ألهذا خرج العرب لمحاربة إسرائيل؟ ما الذي جناه بطل الحرب والسلام؟ هنا، يحضرني تعليق لوزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، "السادات رجل مبهر، قدم لنا الكثير، ولم يأخذ منا شيئاً". طبعاً باستثناء سيناء الأرض المنزوعة السلاح التي تم التنازل عنها بشروط وإملاءات إسرائيلية، مازال المصريون، وقبلهم العرب، يعانون من تبعاتها. ويشهد على ذلك موقف القيادة المصرية الأخير من الحرب على غزة، التي بدت وكأنها شجار عائلي في بيت مجاور!
وتستمر المنعطفات، لتصل إلى رموز القضية الفلسطينية الذين جرّدوا حركة التحرّر الفلسطينية من طابع التحرّر، بتوقيعهم على إتفاق سلام كارثي مع إسرائيل، تم بموجبه انتزاع اعتراف فلسطيني بحق إسرائيل في العيش بسلام، في مقابل حكم ذاتي للفلسطينيين على جزء من الأراضي التي احتلت عام 1967، وكان هذا المنعطف الأول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تحول من صراع وجود واستقلال وحرية إلى صراع خصومة بين طرفين متنازعين!
وأخيراً، لا ينبغي أن يفوتنا تبجّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بصداقته للعرب، في تصريحاته للإذاعة العبرية، والتي أشار فيها إلى حدوث تغيير جوهري في الشرق الأوسط، وفي مواقف دول عربية لم تعد، على حد قوله، تعتبر إسرائيل عدواً، بل شريكاً محتملاً في مواجهة إيران والتنظيمات الإسلامية المتطرفة! كما طالب نتنياهو أصدقاءه العرب بممارسة ضغوط إضافية على الفلسطينيين، لتقديم تنازلاتٍ من شأنها أن تحرك العملية السلمية!