عبيط المخيم

14 مايو 2014

zirko

+ الخط -
لا يمكن أن تمّحي تلك المشاهد من ذاكرتي ما حييت، فجدتي الراحلة التي كانت تجلس أمام بيتنا القرميدي في المخيم، وتلتف حولها الجارات، ثم يأتي، من بعيد، رجل أشعث أغبر بملامح غريبة، وغيرمريحة لنفسي كطفلة في ذلك الوقت، ويجلس قبالتها، ويبدأ في سكب الأماني في أذنيها، إلى درجة أن تفرح بنبوءاته بأنها ستعود قريبا إلى "البلاد".

"البلاد" بالنسبة لجدتي هي قريتها الصغيرة التي هجرت منها، في عام النكبة 1948، والتي تقع قرب مدينة المجدل، وحيث تركتها قسراً، فقد أبقت على "قمباز" جدي معلقاً بمسمار خلف باب الغرفة، على أمل أنها ستعود قريباً إلى بيتها الصغير، كما أبقت على دجاجاتها وبطاتها في القن، بعد أن ألقت تحت أقدامهن كل ما لديها من شعير وفتات خبز.

مرت سنوات كثيرة، ولم تعد جدتي إلى "البلاد"، وأصبح حديث جاراتها عنها مثل قصص ألف ليلة وليلة، فهي، في كل أمسية، تتذكر حادثة ما ومناسبة، أو تصف شيئا ما وصفاً جديداً، يمنح الجارات الجالسات، وكأن على رؤوسهن الطير، المزيد من الخيال، خصوصاً عندما انضم جيل جديد من الجارات الشابات، اللواتي لم يولدن في تلك" البلاد".

وحين يأتي "عبيط المخيم"، كما أطلقت عليه فيما بعد، وهو يعلق في رقبته كيساً من القش، تضع له جدتي فيه خبزاً وفاكهة. وفيما تنقده بعض المال، تتوقف جدتي عن الحديث، ويصبح نظرها شاخصاً باتجاه فم هذا العبيط ذي الأسنان النخرة والأنفاس الكريهة، وهو يخور كثور، عندما يرسل خياله بعيداً، ويشير بأصابعه بالعدد ثلاثة أو خمسة، ما يعني أن موعد العودة اقترب، وتبدأ جدتي بالتخمين، حين تسأله: تقصد أننا سنعود إلى البلاد بعد ثلاثة أيام، أم ثلاثة أشهر، ولم تكن تذكر السنوات، أملاً في عودة سريعة، لكنه كان يرفع بصره بخبث نحو السماء، ويردد: الله أعلم ........ ثم يختفي.

كلما سمعت جدتي خبراً طيباً عن العمليات الفدائية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت تخضب يديها وشعرها بالحناء ابتهاجاً، وتشعر أن موعد العودة اقترب، وحين يأتي "أبو الأحلام"، الذي أطلقت عليه جدتي هذا الاسم، كانت تحتار في كيفية مكافأته، حتى اهتدت إلى وسيلةٍ، تعبر عن سذاجة تلك المرأة الطيبة، وحبها قريتها التي هجرت منها، فقد كانت تفك العقد الذي يحيط برقبتها، وتتناول منه ليرة ذهبية، وتدسها في يد العبيط، والذي تلتمع عيناه بخبثٍ، لم أر مثله، إلى درجة أن يضاهي لمعان الليرة الذهبية، ثم يغيب عن أنظارنا سريعاً.

مرت سنوات كثيرة، وأثقل المرض جدتي، بعد أن تركنا بيتنا في المخيم، وأصبحتُ مراهقةً صغيرةً، حين مرضت جدتي مرضها الأخير، وجلست فوق رأسها أبكي، وأنا أنظر إلى عنقها الذي لم يبق فيه سوى حبل أسود رفيع من القماش، كانت تربط به، قبل سنوات، نحو عشر ليرات ذهبية، والتي استولى عليها عبيط المخيم تباعاً، وهو يبيع الأحلام لجدتي يوماً بعد يوم.

كبرتُ، وبدأت أتابع الأفلام المصرية القديمة، فاكتشفت أن عبيط المخيم يشبه كثيراً عبيط القرية الذي كان تيمة مكررة في أفلام تتناول الحياة في القرى المصرية الفقيرة، ويكتشف المشاهد في نهاية الفيلم أن هذا العبيط، والذي كان أهل القرية يتباركون به، أو يسخرون منه، زعيم العصابة الشرير، أو القاتل الغامض، أو قاطع الطريق الذي كان يسلب الفقراء أموالهم.

مرت سنوات كثيرة، حين التقيت ثانية بهذا العبيط، وقد أصبح مالك متجر كبير في المدينة، وعلى الرغم مما بدا عليه من ثراء، إلا أن أسنانه النخرة ووجهه البغيض لم يتغيرا، وودت لو أطبقت على عنقه بأسناني، لأني كنت أعلم أن ما يرفل به من ثراء، هو ثمن حلم جدتي في العودة إلى "البلاد".
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.