11 نوفمبر 2024
عبقرية الخصومة
العاشقة مرهفة الحس، التي لا تحكم عقلها كثيرا، عادت إلى الرجل الذي تحب، بعد قطيعة مريرة دامت بضعة أشهر، غاب في أثنائها على نحو متشنج خاطف، إثر خصومة صغيرة عابرة، توارى مختفيا من دون إيضاح أو تبرير أو حتى معاتبة، تماما كما لو أنه لم يكن متوفرا بغزارة وعلى مدار الساعة طوال سنوات خلت، كما لو كان كذبةً متقنةً تم كشفها تحت التعذيب في غرفة تحقيق مظلمة، أو حلما سرعان ما بدّدته لحظة الصحو الباردة. تجربة بالغة القسوة عانت فيها صاحبتنا المبتلاة بالحب أسوأ مشاعر الضعف والحزن واليأس وخيبة الأمل والشك الكبير بقدرتها على مواصلة الحياة دونه. ابتعدت عن الأماكن التي اعتادا ارتيادها معا وتهربت من الأصدقاء المشتركين، ووقعت فريسةً سهلة لأنياب الكآبة التي تعطل الحواس، وتحيل الدنيا إلى سواد شامل، غرقت في الوحدة زاهدةً في صحبة الآخرين غير العابئين بأحزانها، إلا بالحد الأدنى من المجاملة والتعاطف المفتعل.
انزوت في ركن مظلم من بيتها، منسحبة مهزومة، تعتريها أفكار سوداوية، ونوبات هلع ونحيب، لحظة التفكير بأن الحبيب مضى في حياته قدما، وقد استبدلها بأخرى، وقد يتزوجان قريبا وينجبان أولادا وبناتا كثيرين، فيما تظل هي متروكةً منسيةً، ليس ثمّة من يسند روحها الثكلى، وقد راهنت عليه بالدنيا ومن فيها، وصدّت من أجل سواد عينيه العرسان الذين طرقوا بابها مرارا. كان تعلقها به أشبه بحالة مرضية يصعب الشّفاء منها، غير أنها، بعد أن واجهت أسوأ مخاوفها المتمثلة بفقدانه، تمكّنت، مع مرور الأيام، من استعادة توازنها تدريجيا. جرى ذلك بعد تجاوز مراحل الصدمة من إنكار وغضب وأسى واستسلام، في نهاية الأمر، إلى مشيئة الأقدار.
وما إن قرّرت العودة إلى الحياة، تاركة أحزان الماضي خلفها، مكرّرة مع المتنبي بإذعان حزين: وما معشر جمعتهم الدنيا ولم يتفرقوا.. حتى بادرها، بعد صمت طويل، بمكالمة هاتفية مفاجئة، عبّر فيها عن أشواق حارقة، ومشاعر ندم واعتذار خجول، ورغبة في لقاء عاجل، محدّثا إياها عن المعاناة الكبيرة التي مر بها في فترة الافتراق، لائما نفسه على حماقة الابتعاد التي أكّدت له عجزه عن مواصلة الحياة بعيدا عنها. نسيت الحمقاء، في لحظة واحدة، كل ما مرّ بها من أهوال، وقبلت الاعتذار من دون تردد، ومن دون توجيه كلمة لوم واحدة، بل نسيت سبب الخصومة أساسا، رقص قلبها فرحا بعودته، نادما معترفا، مبديا التصميم على ألا يتكرّر هذا الانقطاع عن حبيبة القلب التي يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا.
عادت الأمور إلى سياقها، وسط دهشة الصديقات اللواتي ظنن أن حكاية الحب الجميلة التي دامت سنين طوال، وأثارت غيظهن، قد انتهت بفراق الحبيبين. عادا أكثر اندفاعا ولهفة، ذلك ما يحدث دائما، بعد الخصومة الضرورية لغاية التجديد في كل قصص الحب الآيلة إلى زوال، لأن مرور الأيام وتبدل الأحوال يغير المشاعر، وقد يتحوّل حب مجنون جامح إلى محض كراهية ونفور. في البداية، يقبل العاشقان بجنون واندفاع، تتلون الأيام بالبهجة والفرح والانقياد الأعمى اللذيذ، وكثير من الكلام والحوارات والضحك والأحداث العاصفة والخصومات والغيرة وسوء الفهم والالتباس والأحلام والمشروعات غير القابلة للإنجاز، مشحونَين بطاقة الحب الغامضة التي تجعل الواحد منهما مستعدا وسعيدا بالتنازل عن طيب خاطر، سعيا إلى نيل رضا المحبوب. ولكن إلى حين. فيما بعد، يقع الاعتياد والتوقع والفتور والرغبة في مزيد من الأوكسجين، بعيدا عن حضور الآخر الذي يغدو ثقيلا ضاغطا. أدركت صديقتنا هذه المعادلة البسيطة، وباتت أكثر تعقلا وحكمة، وراقت لها لعبة الشد والجذب.. تحكّمت بدرجة تعلقها واتكائها النفسي على حضوره، وصارت تفتعل الخصومة معه، وتلوّح بنيتها الابتعاد عنه، كلما اعتراها الملل. وها هو ذا العريس الوسيم يتصل برجال العائلة، داعيا إياهم كي يرافقوه في الجاهة، لخطبتها من أبيها، وبالرفاه والبنين.
انزوت في ركن مظلم من بيتها، منسحبة مهزومة، تعتريها أفكار سوداوية، ونوبات هلع ونحيب، لحظة التفكير بأن الحبيب مضى في حياته قدما، وقد استبدلها بأخرى، وقد يتزوجان قريبا وينجبان أولادا وبناتا كثيرين، فيما تظل هي متروكةً منسيةً، ليس ثمّة من يسند روحها الثكلى، وقد راهنت عليه بالدنيا ومن فيها، وصدّت من أجل سواد عينيه العرسان الذين طرقوا بابها مرارا. كان تعلقها به أشبه بحالة مرضية يصعب الشّفاء منها، غير أنها، بعد أن واجهت أسوأ مخاوفها المتمثلة بفقدانه، تمكّنت، مع مرور الأيام، من استعادة توازنها تدريجيا. جرى ذلك بعد تجاوز مراحل الصدمة من إنكار وغضب وأسى واستسلام، في نهاية الأمر، إلى مشيئة الأقدار.
وما إن قرّرت العودة إلى الحياة، تاركة أحزان الماضي خلفها، مكرّرة مع المتنبي بإذعان حزين: وما معشر جمعتهم الدنيا ولم يتفرقوا.. حتى بادرها، بعد صمت طويل، بمكالمة هاتفية مفاجئة، عبّر فيها عن أشواق حارقة، ومشاعر ندم واعتذار خجول، ورغبة في لقاء عاجل، محدّثا إياها عن المعاناة الكبيرة التي مر بها في فترة الافتراق، لائما نفسه على حماقة الابتعاد التي أكّدت له عجزه عن مواصلة الحياة بعيدا عنها. نسيت الحمقاء، في لحظة واحدة، كل ما مرّ بها من أهوال، وقبلت الاعتذار من دون تردد، ومن دون توجيه كلمة لوم واحدة، بل نسيت سبب الخصومة أساسا، رقص قلبها فرحا بعودته، نادما معترفا، مبديا التصميم على ألا يتكرّر هذا الانقطاع عن حبيبة القلب التي يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا.
عادت الأمور إلى سياقها، وسط دهشة الصديقات اللواتي ظنن أن حكاية الحب الجميلة التي دامت سنين طوال، وأثارت غيظهن، قد انتهت بفراق الحبيبين. عادا أكثر اندفاعا ولهفة، ذلك ما يحدث دائما، بعد الخصومة الضرورية لغاية التجديد في كل قصص الحب الآيلة إلى زوال، لأن مرور الأيام وتبدل الأحوال يغير المشاعر، وقد يتحوّل حب مجنون جامح إلى محض كراهية ونفور. في البداية، يقبل العاشقان بجنون واندفاع، تتلون الأيام بالبهجة والفرح والانقياد الأعمى اللذيذ، وكثير من الكلام والحوارات والضحك والأحداث العاصفة والخصومات والغيرة وسوء الفهم والالتباس والأحلام والمشروعات غير القابلة للإنجاز، مشحونَين بطاقة الحب الغامضة التي تجعل الواحد منهما مستعدا وسعيدا بالتنازل عن طيب خاطر، سعيا إلى نيل رضا المحبوب. ولكن إلى حين. فيما بعد، يقع الاعتياد والتوقع والفتور والرغبة في مزيد من الأوكسجين، بعيدا عن حضور الآخر الذي يغدو ثقيلا ضاغطا. أدركت صديقتنا هذه المعادلة البسيطة، وباتت أكثر تعقلا وحكمة، وراقت لها لعبة الشد والجذب.. تحكّمت بدرجة تعلقها واتكائها النفسي على حضوره، وصارت تفتعل الخصومة معه، وتلوّح بنيتها الابتعاد عنه، كلما اعتراها الملل. وها هو ذا العريس الوسيم يتصل برجال العائلة، داعيا إياهم كي يرافقوه في الجاهة، لخطبتها من أبيها، وبالرفاه والبنين.