عبد الكريم قاسم.. قراءة عن بُعد

17 يوليو 2019
+ الخط -
مضت ستة عقود ولا يزال العراقيون يختلفون على توصيف الحدث الكبير، الذي شهدته بلادهم في يوليو/ تموز 1958، والذي كان على درجةٍ عاليةٍ من الفرادة والاستثنائية، اذ أحدث تحولاً في العراق والمنطقة، وأتاح للعسكرتاريا العراقية صعوداً غير طبيعي، لا نزال نعاني من مراراته، وقد ارتبط الحدث المذكور بشخصية عبد الكريم قاسم الذي برز رجلاً أول، بعدما عمل على تصفية رفاقه الثوار، وانفرد بالسلطة أربع سنوات ونصف كانت مليئة بالعواصف والأعاصير التي انعكست على وحدة العراقيين وتضامنهم، وأفقدتهم نعمة الاستقرار والأمان. وقد ظلت شخصية قاسم هي الأخرى، مثار سجال وجدل بين من رأى فيه "الزعيم الأوحد" الذي خدم العراق والعراقيين، في حين اعتبره آخرون "الدكتاتور" الذي قسم العراق، وأشاع الفرقة بين أبنائه. وفي واقع الحال، كان واحداً من القادة "الشعبويين" الذين خرجوا من رحم "العسكرتاريا" العربية في الخمسينيات، وكانت تطغى على اهتماماتهم فكرة الالتصاق بالطبقات الشعبية، والانتصار لها من دون الاعتماد على خط أيديولوجي واضح، يخالط تلك الثقة المبالغ بها في النفس، وتوهم القدرة على حلّ المشكلات التي تعاني منها تلك الطبقات. ووصل الأمر ببعضهم إلى حدّ التوهم أنهم وحدهم القادرون على حل تلك المشكلات، وأنهم "خالدون"، ولا أحد يستطيع أن يزيحهم، أو حتى أن ينوب عنهم! 
وزاد من حدّة هذه الظاهرة، في التجربة العراقية، عجز الحركات المدنية (الثورية) عن التقاط المبادرة والإمساك بالبوصلة لتحقيق النقلة التاريخية المطلوبة، وتركت للعسكر أن يتسيدوا السلطة، ويوغلوا في ارتكاب الحماقات التي أضرّت البلاد، وأفقدتها الكثير من ثرواتها ورجالها. ومع ذلك، علينا أن نقر بأن قاسم امتلك ما أهّله لأداء دور قيادي في الحياة السياسية العراقية طوال سنوات حكمه. وفي صميم هذا التقييم، ما كنت قد اكتشفته من خلال اقترابي منه في مناسبات عامة عديدة، بحكم عملي في الإذاعة، إذ وجدت أن شخصيته الكاريزمية كثيراً ما أدّت دورها في تكريس شعبيته، وجعلت كل العيون شاخصةً نحو عينيه اللتين تتّقدان حدة، إلى درجة أن كل فرد من الحضور يشعر وكأنه يخاطبه وحده!
ولاحظت قدرته على استخدام فطنته في التعامل مع حالاتٍ تثير الغضب، لكنه كان يتفادى 
إظهار ذلك. أذكر أنني كنت مرة أقف إلى جانبه، وهو يضع حجر الأساس لمشروع إسكاني في إحدى ضواحي بغداد، وكان التقليد المتبع أن توضع نسخ من الصحف، وقطع من العملة في صندوق صغير يودع عند الحجر الأساس، وقد تقدّم أحد المرافقين، وهو يحمل مجموعة الصحف، واستل منها صحيفة "اتحاد الشعب"، لسان الحزب الشيوعي، ليقدّمها إليه، إلا أنه تجاهل المرافق، ومد يده ليلتقط صحيفة "صوت الأحرار"، وهي يسارية مستقلة، ثم صحيفة "الثورة" القريبة من السلطة، وبدا تصرّفه كما لو أنه أراد أن يمحو انطباعاً ساد، في حينه، لدى أوساط كثيرة، مفاده بأنه "شيوعي"، أو قريب من الشيوعيين، وقد يكون أراد أن يبعث رسالة إلى الشيوعيين أنفسهم، مفادها بأنه زعيم كل العراقيين، وأنه لن يكون منحازاً لفئة سياسية معينة، مهما كان حجمها وتأثيرها!
وفي مناسبة ثانية، تقدّمت امرأة من بعيد تبغي الوصول إليه، وكان يحيط به رجال الحماية الذين حاولوا منعها من التقدّم، لكنها ظلت تصرخ شاكيةً من ظلمٍ ألحقه بها مسؤول إداري، وكان أن أمسك بها أحد مرافقيه، محاولاً إعادتها إلى الخلف. ولفت ذلك انتباه الزعيم الذي بدا عليه الغضب، وكان الشرر يتطاير من عينيه، وهو يأمر المرافق بأن يدعها تتقدم، قائلاً: "إذا لم يستطع المواطنون أن يشكوا إلى الزعيم مما يتعرّضون له، فلمن يشكون إذاً؟".
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يشير فيها قاسم إلى أنه "زعيم البلاد"، فقد كرّر أكثر من مرة في خطبه عبارة أن "الكل وراء الزعيم"، كاشفاً عن نرجسية طاغية، كثيراً ما حملها حكام "شعبويون" مثله! ولكن ما يُحسب له أنه كان "عراقياً" حد التطرّف، ولم يعرف عنه أنه تبنّى موقفاً طائفياً، أو عرقياً معيناً، وينقل عنه مقرّبون قوله إنه إذا صحّ أن هناك "سوبرمان" يمكن أن يظهر يوماً ما فسوف يظهر في العراق، وليس في غيره، لأن العراق سليل حضارات، ووريث تاريخ عريق، وكان أطلق على الجمهورية العراقية صفة "الخلود"، مشيراً إلى أنها "أمنع من عقاب الجو".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"