لعبد القادر ياسين عشرات المؤلفات، وبمقابلها تجربة طويلة من العمل السياسي والبحثي ورحلة شقية وشيقة بالمعتقلات والمنافي.
تبدأ رحلته من يافا 1935، حيث ولد، ثم في غزة حيث انتسب للحزب الشيوعي واعتقل بسبب ذلك بسجون الرئيس عبد الناصر من 1959 الى 1961 تعرّف خلالها على رموز اليسار المصري.
بقي ياسين بالقاهرة حيث تزوج الى أن طرده الرئيس السادات عام 1977 ليغادرها الى بيروت التي رحل عنها مع آخر سفينة للمقاتلين الفلسطينيين خرجت الى طرطوس عام 1982، وليستقر في دمشق حتى عام 1996، حيث سمح له بالعودة إلى مصر.
للرجل حكايات كثيرة مع رموز منظمة التحرير الفلسطينية وفي مقدمتهم أحمد الشقيري، أول رئيس للمنظمة، وياسر عرفات، الذي لم يكن على علاقة طيبة به ويتهمه باتهامات خطيرة، ومع أبو أياد، ولاحقاً مع قادة فتح الانتفاضة، أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة.
ما زال محاورنا نشيطاً مفعماً بالحيوية وذاكرة حادة للأرقام والتفاصيل، وما زال يكتب تجربته ويصنعها، حيث يسجّل بعضاً من سيرته في كتابه: "حياة في المنفى"، ويتابع النشاط ونقل خبرته بمختبر "ورشة التحرير والعودة" التي بدأها في سورية عام 1990 واستمرت بمصر حيث يدرب الشباب على الكتابة.
يفتح عبد القادر ياسين خزانة أسراره، لـ"العربي الجديد"، متحدثاً عن تفاصيل موضوعين أرّخ لهما وعايش مراحل مهمة فيهما: الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الشيوعية العربية.- لنتكلم عن بداياتك في الحزب الشيوعي وقراءة الفاتحة عند دخولك الحزب؟
ساهمت بانطلاق التظاهرات في غزة قبل انتفاضة مارس/ آذار 1955، وانتهت بوعد عبد الناصر إلغاء مشروع سيناء لتوطين اللاجئين بعدما وقّعت الحكومة المصرية اتفاقاً مع الإدارة الأميركية في يونيو/ حزيران عام 1953 بتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة ومصر في سيناء، وناضلنا ضد هذا المشروع طويلاً وتوّج ذلك بتظاهرات مارس، وكان الهتاف الرئيسي للشيوعيين: "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"، أمّا الهتاف الإخواني فكان: "لا منظار ولا منقار، تسقط حكومة الرقاصين"، والمنقار هو جمال عبد الناصر، أما المنظار وحكومة الرقاصين فإشارة لصلاح سالم، وزير الإرشاد القومي وشؤون السودان، حيث رقص في جنوب السودان رقصتهم التي يظهرون فيها شبه عراة ونشرتها الصحف المصرية.
وأصل هذه الانتفاضة هو الاحتجاج على عدوان إسرائيلي شُنَّ على قطاع غزّة في 28 فبراير/ شباط 1955، قامت به الوحدة 101 بقيادة شارون وقتلت 39 شخصاً، فاندلعت الانتفاضة من مدرستنا، مدرسة فلسطين الثانوية بغزة، وقامت على تحالف شيوعي ـ إخواني، حيث كانا الحزبين الوحيدين في قطاع غزّة حينها، وانتهى الأمر بأن وافق عبد الناصر على مطالب المنتفضين، وتمثّلت بإلغاء مشروع سيناء لتوطين اللاجئين وتحصين القطاع وتسليحه، وإشاعة الحريات الديمقراطية. طبعاً هو نفّذ الاثنين الأولين، أمّا الثالث، فلك العمر! المهم وعد الحاكم العام لقطاع غزّة آنذاك، اللواء عبد الله رفعت، بعدم معاقبة أحد، ولكن وعده تبخّر، إذ اعتقل الأمن المصري 68 متظاهراً بقي 31 منهم في السجن إلى ما بعد العدوان الثلاثي، رغم أن المعتقلات المصرية نُظّفت عن آخرها من السياسيين في يوليو/ تموز 1956، ومع ذلك عوقبوا لأنهم هتفوا ضد عبد الناصر، وهذا الأمر لم يكن ليتساهل فيه. اعتقلتُ وحقّق معي سكرتير الاستخبارات الحربية في غزّة سعيد السقا، وهو فلسطيني، وكان شرساً في التحقيق، وكنت ولداً حينها في الصف الثاني الثانوي، ثم قابلني مصطفى حافظ، مدير مكتب الاستخبارات المصرية في غزة، وكان دمثاً، وسألني إن كنت شيوعياً، لأني كنت أهتف بشعاراتهم.
هو نبّهني أنني متوافق مع الشيوعيين، ثم دعاني أحد مدرّسيَّ للحزب، فقلت له ما يمنعني من ذلك: الله، لأنكم كفّار، والسلام.
فقال: "نحن لا نتدخّل إلّا في علاقتك بأخيك الإنسان، أمّا علاقتك مع الله فأنت حرٌّ بها".
وأما السلام فهو السلام العادل ورد الحقوق.
فقلت له: "لنقرأ الفاتحة"، وبعد عامين صرت عضو لجنة مركزية.
- واعتُقِلت؟
اعتُقلتُ من الاحتلال الإسرائيلي ليلة رأس سنة 1957، لأن إسرائيل احتلت غزة قبل النكسة في 2/11/1956 ضمن العدوان الثلاثي، وخرجت منها في 7/3/1957.
- وعند المصريين؟
اعتُقلت في 10/8/1959، وبقيت نحو سنة في السجن الحربي، وهنا ذقنا الويل. كنّا 30 رجلاً وامرأة، هي صهباء البربري، وقد تزوجت لاحقاً رفيقنا معين بسيسو. وسبب اعتقال الشيوعيين الخلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وموقفهما من الوحدة، حيث كان قاسم يرى عدم ضرورة الاندماج الفوري بين العراق والجمهورية العربية المتحدة والاكتفاء باتحاد فيدرالي فوقف معه الشيوعيون والوطني الديمقراطي، برئاسة كامل جادرجي، وقسم من حزب الاستقلال معه، بينما وقف البعثيون والقوميون العرب ومعظم أحزاب الاستقلال مع الوحدة الفورية الاندماجية. المضحك أنه عندما أسقط البعثيون قاسم لم يدخلوا في وحدة ولا في اتحاد.
- كنتم مع الشيوعيين المصريين في المعتقل نفسه؟
نعم، وحين قامت الوحدة المصرية ـ السورية، أصدرنا بياناً يطالب أن تصبح فلسطين الإقليم الأوسط، حتى يصبح تحريرها مهمة الدولة الجديدة، حيث سورية الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي. يعني لم نقف ضد الوحدة.
- على عكس رفاقكم في الحزب الشيوعي السوري!
الحزب الشيوعي السوري تحفّظ بسبب شرط حل الأحزاب. الشيوعيون المصريون أيّدوا الوحدة بشكل أعمى، ولكن مع الديمقراطية، فكتب هيكل مقاله الشهير: "على الشيوعيين أن يلمّوا راياتهم ويرفعوا رايات الوطنية وإلّا فلتوضع الأقفال على الأفواه ". هذا الديمقراطي!
في سجن الواحات، ورغم أنهم كانوا يشغلوننا في الجبل، كنّا ننظّم ندوات ومحاضرات وإصدار جرائد. كانت هناك ست جرائد كنت أساهم في جريدتين، واحدة للرسم الكاريكاتيري على بطانية.
- اختلفتم بالموقف من عبد الناصر؟
عندما وصلتُ لسجن الواحات، كان عبد الناصر قد أمّم البنوك المصرية، فكانت مجموعة حديتو تقول إن عبد الناصر بتأميمه للبنوك قد وجّه ضربة قاضية للرأسمالية الكبيرة لحساب البرجوازية الصغيرة، أمّا المجموعة الأكبر، المحسوبة على الحزب الشيوعي ـ العمال والفلاحين، فكانت تقول إن عبد الناصر يمثّل الجناح اليميني من البرجوازية المتحالف مع الاحتكار. وهذا التأميم هو لصالح الرأسمالية الكبيرة، شأن بريطانيا عندما أمّمت الفحم أو الصلب عندما تدهورت صناعته، وهناك مَن كان يرى أن ناصر يمثل البرجوازية الوطنية بما لها وما عليها.
- مع أن حديتو فقد قائده تحت التعذيب، شهدي عطية!
فقد أكثر من رفيق، ولكن أهمهم ومسؤولهم الأول شهدي عطية الشافعي، قضى في 15/6/1960 تحت التعذيب. وقد ترك مؤلفاً مهمّاً: "تطوّر الحركة الوطنية المصرية".
كانت مجموعته تقول إن عبد الناصر يمثل البرجوازية الصغيرة، وثم تطور رأي بعضهم الى أن هناك مجموعة اشتراكية في الحكم على رأسها عبد الناصر.
- مَن خرج من الشيوعيين المصريين تبوّأ مناصب في الإعلام؟
قال لي فؤاد مرسي، عندما زرته عام 1964، وهو أهم مفكّر شيوعي: "عندما خرجنا من السجن، كان يجب علينا أن نتجنّس من جديد".
هناك ستة من قادة الحزب الشيوعي أشرفوا على مجلّة الطليعة الشهرية التي ربّت أجيالاً وكان يرأس تحريرها لطفي الخولي، ورغم أنه سجن، ولكنه لم يكن عضواً في التنظيم الشيوعي، وقد سجن في القصر العيني، ولم يتعرض لتعذيب وخرج بعدها مباشرةً لجريدة الأهرام، حيث بدأ بالهجوم على الشيوعيين، ومدير التحرير، ميشيل كامل، وسكرتير التحرير عبد المنعم القصاص، رحمهم الله جميعاً.
- خرجتم من السجن مع المصريين؟
خرجنا قبل المصريين، هم خرجوا في فاتح نيسان/ ابريل عام 1964، بينما نحن في 1960، وعام 1961 خرجت مجموعتان، وفي 1962 خرج شخص واحد وبقي ستة أشخاص خرجوا عام 1963. كانوا يخرجون الناس من سجن الواحات لسجن القلعة، ويُطلب منّا أن نستنكر المبادئ أو أن نكتب تعهّداً بعدم العمل في السياسة.
قابلني الفريق يوسف العجرودي وقال: "خيرني الرئيس بين الذهاب للحج أو لغزّة، فذهبت إلى غزة وقابلت حيدر عبد الشافي وفاير أبو رحمة، فقالوا لي هناك مظلومون في السجن".
ولكن نائب مدير الاستخبارات المصرية في غزة، سعيد يحيى، بدأ يغلظ علينا، ولاحقاً عرفت أنه قبض عليه بتهمة التجسس.
خرجنا يوم 22/7/1961، أنا ومحمود عويضة وخليل عويضة، الذي كان وكيل التعليم بوكالة الغوث ولم يكن شيوعياً.
- لماذا تركت الحزب الشيوعي؟
كانت هناك مجموعة في الحزب لم أكن أثق بها.
- ولكن في الخارج تأسست أحزاب شيوعية فلسطينية، مثل الحزب الشيوعي الثوري!
للحزب الشيوعي الثوري سياق آخر، فبعدما قام الحزب الشيوعي الفلسطيني في ١٠/٢/١٩٨٢، تمت محاربة عربي عوّاد ومجموعته، فعملوا انشقاقاً سمّوه الحزب الشيوعي الثوري ينادي بالكفاح المسلّح.
- زوجتك ناصرية؟
بيتنا مليء بصور عبد الناصر، وقد رفضت رفع قضية للتعويض زمن السادات مع مجموعة من الزملاء المصريين وقلت: "من غير الممكن أن آخذ تعويضاً عمّا فعله عبد الناصر، من السادات الخائن".
- كيف وجدت تأثير اليهود في الحركة الشيوعية العربية؟
في الثلاثينيات، انحلّ الحزب الشيوعي المصري، فلاذ قسم من اليهود للماركسية، واتجهت الأغلبية نحو الصهيونية، ومنهم مَن أسّس حركات ماركسية في مصر: "تحرير الشعب"، بينما أسس إسرائيل مارسال واحمد صادق سعد وريمون دويك ويوسف درويش حركة "الفجر الجديد"، وأسس هنري كورييل "الحركة المصرية للتحرر الوطني".
بالمقابل، ظهر تنظيم شيوعي عام 1950 اشتهر باسم جريدته "راية الشعب"، وحظر دخول اليهود والنساء إلى عضويته.
تبدأ رحلته من يافا 1935، حيث ولد، ثم في غزة حيث انتسب للحزب الشيوعي واعتقل بسبب ذلك بسجون الرئيس عبد الناصر من 1959 الى 1961 تعرّف خلالها على رموز اليسار المصري.
بقي ياسين بالقاهرة حيث تزوج الى أن طرده الرئيس السادات عام 1977 ليغادرها الى بيروت التي رحل عنها مع آخر سفينة للمقاتلين الفلسطينيين خرجت الى طرطوس عام 1982، وليستقر في دمشق حتى عام 1996، حيث سمح له بالعودة إلى مصر.
للرجل حكايات كثيرة مع رموز منظمة التحرير الفلسطينية وفي مقدمتهم أحمد الشقيري، أول رئيس للمنظمة، وياسر عرفات، الذي لم يكن على علاقة طيبة به ويتهمه باتهامات خطيرة، ومع أبو أياد، ولاحقاً مع قادة فتح الانتفاضة، أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة.
ما زال محاورنا نشيطاً مفعماً بالحيوية وذاكرة حادة للأرقام والتفاصيل، وما زال يكتب تجربته ويصنعها، حيث يسجّل بعضاً من سيرته في كتابه: "حياة في المنفى"، ويتابع النشاط ونقل خبرته بمختبر "ورشة التحرير والعودة" التي بدأها في سورية عام 1990 واستمرت بمصر حيث يدرب الشباب على الكتابة.
يفتح عبد القادر ياسين خزانة أسراره، لـ"العربي الجديد"، متحدثاً عن تفاصيل موضوعين أرّخ لهما وعايش مراحل مهمة فيهما: الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الشيوعية العربية.- لنتكلم عن بداياتك في الحزب الشيوعي وقراءة الفاتحة عند دخولك الحزب؟
ساهمت بانطلاق التظاهرات في غزة قبل انتفاضة مارس/ آذار 1955، وانتهت بوعد عبد الناصر إلغاء مشروع سيناء لتوطين اللاجئين بعدما وقّعت الحكومة المصرية اتفاقاً مع الإدارة الأميركية في يونيو/ حزيران عام 1953 بتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة ومصر في سيناء، وناضلنا ضد هذا المشروع طويلاً وتوّج ذلك بتظاهرات مارس، وكان الهتاف الرئيسي للشيوعيين: "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"، أمّا الهتاف الإخواني فكان: "لا منظار ولا منقار، تسقط حكومة الرقاصين"، والمنقار هو جمال عبد الناصر، أما المنظار وحكومة الرقاصين فإشارة لصلاح سالم، وزير الإرشاد القومي وشؤون السودان، حيث رقص في جنوب السودان رقصتهم التي يظهرون فيها شبه عراة ونشرتها الصحف المصرية.
وأصل هذه الانتفاضة هو الاحتجاج على عدوان إسرائيلي شُنَّ على قطاع غزّة في 28 فبراير/ شباط 1955، قامت به الوحدة 101 بقيادة شارون وقتلت 39 شخصاً، فاندلعت الانتفاضة من مدرستنا، مدرسة فلسطين الثانوية بغزة، وقامت على تحالف شيوعي ـ إخواني، حيث كانا الحزبين الوحيدين في قطاع غزّة حينها، وانتهى الأمر بأن وافق عبد الناصر على مطالب المنتفضين، وتمثّلت بإلغاء مشروع سيناء لتوطين اللاجئين وتحصين القطاع وتسليحه، وإشاعة الحريات الديمقراطية. طبعاً هو نفّذ الاثنين الأولين، أمّا الثالث، فلك العمر! المهم وعد الحاكم العام لقطاع غزّة آنذاك، اللواء عبد الله رفعت، بعدم معاقبة أحد، ولكن وعده تبخّر، إذ اعتقل الأمن المصري 68 متظاهراً بقي 31 منهم في السجن إلى ما بعد العدوان الثلاثي، رغم أن المعتقلات المصرية نُظّفت عن آخرها من السياسيين في يوليو/ تموز 1956، ومع ذلك عوقبوا لأنهم هتفوا ضد عبد الناصر، وهذا الأمر لم يكن ليتساهل فيه. اعتقلتُ وحقّق معي سكرتير الاستخبارات الحربية في غزّة سعيد السقا، وهو فلسطيني، وكان شرساً في التحقيق، وكنت ولداً حينها في الصف الثاني الثانوي، ثم قابلني مصطفى حافظ، مدير مكتب الاستخبارات المصرية في غزة، وكان دمثاً، وسألني إن كنت شيوعياً، لأني كنت أهتف بشعاراتهم.
هو نبّهني أنني متوافق مع الشيوعيين، ثم دعاني أحد مدرّسيَّ للحزب، فقلت له ما يمنعني من ذلك: الله، لأنكم كفّار، والسلام.
فقال: "نحن لا نتدخّل إلّا في علاقتك بأخيك الإنسان، أمّا علاقتك مع الله فأنت حرٌّ بها".
وأما السلام فهو السلام العادل ورد الحقوق.
فقلت له: "لنقرأ الفاتحة"، وبعد عامين صرت عضو لجنة مركزية.
- واعتُقِلت؟
اعتُقلتُ من الاحتلال الإسرائيلي ليلة رأس سنة 1957، لأن إسرائيل احتلت غزة قبل النكسة في 2/11/1956 ضمن العدوان الثلاثي، وخرجت منها في 7/3/1957.
- وعند المصريين؟
اعتُقلت في 10/8/1959، وبقيت نحو سنة في السجن الحربي، وهنا ذقنا الويل. كنّا 30 رجلاً وامرأة، هي صهباء البربري، وقد تزوجت لاحقاً رفيقنا معين بسيسو. وسبب اعتقال الشيوعيين الخلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وموقفهما من الوحدة، حيث كان قاسم يرى عدم ضرورة الاندماج الفوري بين العراق والجمهورية العربية المتحدة والاكتفاء باتحاد فيدرالي فوقف معه الشيوعيون والوطني الديمقراطي، برئاسة كامل جادرجي، وقسم من حزب الاستقلال معه، بينما وقف البعثيون والقوميون العرب ومعظم أحزاب الاستقلال مع الوحدة الفورية الاندماجية. المضحك أنه عندما أسقط البعثيون قاسم لم يدخلوا في وحدة ولا في اتحاد.
- كنتم مع الشيوعيين المصريين في المعتقل نفسه؟
نعم، وحين قامت الوحدة المصرية ـ السورية، أصدرنا بياناً يطالب أن تصبح فلسطين الإقليم الأوسط، حتى يصبح تحريرها مهمة الدولة الجديدة، حيث سورية الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي. يعني لم نقف ضد الوحدة.
- على عكس رفاقكم في الحزب الشيوعي السوري!
الحزب الشيوعي السوري تحفّظ بسبب شرط حل الأحزاب. الشيوعيون المصريون أيّدوا الوحدة بشكل أعمى، ولكن مع الديمقراطية، فكتب هيكل مقاله الشهير: "على الشيوعيين أن يلمّوا راياتهم ويرفعوا رايات الوطنية وإلّا فلتوضع الأقفال على الأفواه ". هذا الديمقراطي!
في سجن الواحات، ورغم أنهم كانوا يشغلوننا في الجبل، كنّا ننظّم ندوات ومحاضرات وإصدار جرائد. كانت هناك ست جرائد كنت أساهم في جريدتين، واحدة للرسم الكاريكاتيري على بطانية.
- اختلفتم بالموقف من عبد الناصر؟
عندما وصلتُ لسجن الواحات، كان عبد الناصر قد أمّم البنوك المصرية، فكانت مجموعة حديتو تقول إن عبد الناصر بتأميمه للبنوك قد وجّه ضربة قاضية للرأسمالية الكبيرة لحساب البرجوازية الصغيرة، أمّا المجموعة الأكبر، المحسوبة على الحزب الشيوعي ـ العمال والفلاحين، فكانت تقول إن عبد الناصر يمثّل الجناح اليميني من البرجوازية المتحالف مع الاحتكار. وهذا التأميم هو لصالح الرأسمالية الكبيرة، شأن بريطانيا عندما أمّمت الفحم أو الصلب عندما تدهورت صناعته، وهناك مَن كان يرى أن ناصر يمثل البرجوازية الوطنية بما لها وما عليها.
- مع أن حديتو فقد قائده تحت التعذيب، شهدي عطية!
فقد أكثر من رفيق، ولكن أهمهم ومسؤولهم الأول شهدي عطية الشافعي، قضى في 15/6/1960 تحت التعذيب. وقد ترك مؤلفاً مهمّاً: "تطوّر الحركة الوطنية المصرية".
كانت مجموعته تقول إن عبد الناصر يمثل البرجوازية الصغيرة، وثم تطور رأي بعضهم الى أن هناك مجموعة اشتراكية في الحكم على رأسها عبد الناصر.
- مَن خرج من الشيوعيين المصريين تبوّأ مناصب في الإعلام؟
قال لي فؤاد مرسي، عندما زرته عام 1964، وهو أهم مفكّر شيوعي: "عندما خرجنا من السجن، كان يجب علينا أن نتجنّس من جديد".
هناك ستة من قادة الحزب الشيوعي أشرفوا على مجلّة الطليعة الشهرية التي ربّت أجيالاً وكان يرأس تحريرها لطفي الخولي، ورغم أنه سجن، ولكنه لم يكن عضواً في التنظيم الشيوعي، وقد سجن في القصر العيني، ولم يتعرض لتعذيب وخرج بعدها مباشرةً لجريدة الأهرام، حيث بدأ بالهجوم على الشيوعيين، ومدير التحرير، ميشيل كامل، وسكرتير التحرير عبد المنعم القصاص، رحمهم الله جميعاً.
- خرجتم من السجن مع المصريين؟
خرجنا قبل المصريين، هم خرجوا في فاتح نيسان/ ابريل عام 1964، بينما نحن في 1960، وعام 1961 خرجت مجموعتان، وفي 1962 خرج شخص واحد وبقي ستة أشخاص خرجوا عام 1963. كانوا يخرجون الناس من سجن الواحات لسجن القلعة، ويُطلب منّا أن نستنكر المبادئ أو أن نكتب تعهّداً بعدم العمل في السياسة.
قابلني الفريق يوسف العجرودي وقال: "خيرني الرئيس بين الذهاب للحج أو لغزّة، فذهبت إلى غزة وقابلت حيدر عبد الشافي وفاير أبو رحمة، فقالوا لي هناك مظلومون في السجن".
ولكن نائب مدير الاستخبارات المصرية في غزة، سعيد يحيى، بدأ يغلظ علينا، ولاحقاً عرفت أنه قبض عليه بتهمة التجسس.
خرجنا يوم 22/7/1961، أنا ومحمود عويضة وخليل عويضة، الذي كان وكيل التعليم بوكالة الغوث ولم يكن شيوعياً.
- لماذا تركت الحزب الشيوعي؟
كانت هناك مجموعة في الحزب لم أكن أثق بها.
- ولكن في الخارج تأسست أحزاب شيوعية فلسطينية، مثل الحزب الشيوعي الثوري!
للحزب الشيوعي الثوري سياق آخر، فبعدما قام الحزب الشيوعي الفلسطيني في ١٠/٢/١٩٨٢، تمت محاربة عربي عوّاد ومجموعته، فعملوا انشقاقاً سمّوه الحزب الشيوعي الثوري ينادي بالكفاح المسلّح.
- زوجتك ناصرية؟
بيتنا مليء بصور عبد الناصر، وقد رفضت رفع قضية للتعويض زمن السادات مع مجموعة من الزملاء المصريين وقلت: "من غير الممكن أن آخذ تعويضاً عمّا فعله عبد الناصر، من السادات الخائن".
- كيف وجدت تأثير اليهود في الحركة الشيوعية العربية؟
في الثلاثينيات، انحلّ الحزب الشيوعي المصري، فلاذ قسم من اليهود للماركسية، واتجهت الأغلبية نحو الصهيونية، ومنهم مَن أسّس حركات ماركسية في مصر: "تحرير الشعب"، بينما أسس إسرائيل مارسال واحمد صادق سعد وريمون دويك ويوسف درويش حركة "الفجر الجديد"، وأسس هنري كورييل "الحركة المصرية للتحرر الوطني".
بالمقابل، ظهر تنظيم شيوعي عام 1950 اشتهر باسم جريدته "راية الشعب"، وحظر دخول اليهود والنساء إلى عضويته.