بعد عام على مجزرة فض اعتصام محيط القيادة القيادة العامة للجيش في العاصمة السودانية الخرطوم، لا مؤشرات في الأفق، بحسب مراقبين، للوصول إلى الجناة أو تقديمهم لمحاكمة عادلة، وهو ما دفع كثيرين إلى تصعيد مطالبهم باتجاه التحقيق الدولي. مع العلم أن المجزرة وقعت في 3 يونيو/ حزيران 2019، قبل يوم واحد من عيد الفطر، وبعد نحو شهرين من الإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، وأدت إلى مقتل أكثر من 128 معتصماً، على أقل تقدير، وأصيب مئات آخرون، بينما لا يزال مصير عدد آخر مجهولاً. أوقفت المجزرة المفاوضات التي كانت قائمة بين المجلس العسكري الانتقالي الذي سيطر على الحكم في حينه بعد إسقاط البشير، وقوى إعلان الحرية والتغيير. غير أن وساطة إثيوبية دفعت إلى استئناف المفاوضات وتوقيع اتفاق بين الطرفين، نصّ أحد بنوده على تشكيل لجنة تحقيق وطنية، يحقّ لها الاستعانة بالاتحاد الأفريقي، على أن تعلن نتائجها خلال 3 أشهر من تشكيلها.
وفي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، سمّى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك المحامي نبيل أديب رئيساً للجنة، غير أن ذلك لم يرضِ الثوار أو أسر الضحايا، الذين أبدوا شكوكهم في قدرة اللجنة على الوصول للجناة، تحديداً أعضاء المجلس العسكري المتهمين المباشرين بالتخطيط لفض الاعتصام وتنفيذ تلك الخطط، حسب كل الشواهد والأدلة، ومن بينها إفادات شهود عيان حضروا ليلة الفض والقتل والسحل. وهذا ما أكدته ودعمته تحقيقات أخرى، مثل تحقيق منظمة العفو الدولية، الذي أكد تورط قوات الشرطة وجهاز الأمن وجهاز المخابرات الوطني وقوات الدعم السريع في الهجمات المميتة ضد المعتصمين. وأعادت المنظمة التذكير بالاعتراف العلني للمتحدث باسم المجلس العسكري في ذلك الوقت، الفريق الركن شمس الكباشي، بأن المجلس العسكري هو الذي أمر بتفريق المحتجين.
ولم تخرج الشكوك حول إمكانية إفلات قادة المجلس العسكري من العدالة، من الثوار وأسر الضحايا فحسب، بل عززتها تصريحات أديب في أكثر من مناسبة، حين لمّح إلى أن مهمة لجنته ليست محصورة بمحاكمة أو تسمية قوات شاركت في فض الاعتصام، بل في تقديم المتهمين بالقتل المباشر للمحاكمة. كما أن قرار اللجنة بسحب ملفات قضايا الضحايا من النيابات العامة أثار شكوكاً إضافية.
ولم تعلن اللجنة نتائجها في يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد انتهاء فترة التكليف، وبررت ذلك بعدم انتهاء التحقيق، معلنة حاجتها لثلاثة أشهر إضافية. وأثار الموقف غضباً شديداً بين الثوار الذين خرجوا للشوارع للتظاهر، ووصفوا الأمر بـ"المماطلة في الكشف عن الحقائق التي ينتظرها الشعب السوداني والثوار وأسر الضحايا".
من هؤلاء يقول خالد عبد الرحمن، شقيق الضحية وليد عبد الرحمن، أحد ضحايا فض الاعتصام، إنهم كأسر الضحايا ينظرون إلى الذكرى الأولى للحادثة بأسى شديد، لأنها لم تحقق الأهداف الحقيقية لثورة قُتل فيها أبناؤهم وبناتهم، معتبراً أن النظام السابق لا يزال مسيطراً عبر عسكر مجلس السيادة على مقاليد السلطة، ويتحكم في كل شيء وبعيد كل البعد عن تحقيق شعارات الحرية والسلام والعدالة التي رفعتها الثورة كشعارات.
ويضيف عبد الرحمن في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "ملف العدالة والقصاص للشهداء لم يحدث فيه أي تقدم، وأن لجنة التحقيق صُمّمت خصيصاً لتبرئة رئيس وأعضاء المجلس العسكري من الجريمة، تحديداً نائب رئيس المجلس وقتها الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وكذلك تبرئة قوى إعلان الحرية والتغيير التي كانت لها يد في ما حدث". ويوضح أن "مطالب أسر الشهداء ستظل قائمة بتشكيل لجنة تحقيق دولية تضع الأمور في نصابها الصحيح، وتحدّد بشكل قاطع المتورطين في فض الاعتصام وقتل الشهداء، من دون اعتبار لمكانتهم السياسية أو مشاركتهم في السلطة الانتقالية". ويعتبر أنه في حال عدم تحقيق ذلك الشرط، فيجب على رئيس الوزراء إطلاق يد النائب العام بممارسة صلاحياته كاملة في رفع الحصانات عن المتهمين في الأجهزة الأمنية، مشيراً إلى أن هناك 8 بلاغات حالياً والمتهمون فيها معروفون لكن السلطات غير قادرة على رفع حصانتهم. ويشدّد عبد الرحمن على أن الثورة مستمرة والشارع مفتوح لكل الاحتمالات، إذا ما تأكد بشكل قاطع عدم وجود رغبة في محاكمة المتهمين.
أما إيمان إسماعيل يوسف، والدة الضحية قصي، فتقول إن ذكرى فض الاعتصام مؤلمة، لأن ابنها وبقية المعتصمين قاموا بثورة أخلاقية إنسانية، لتقع في حقهم مجزرة لا تشبه أخلاق السودانيين، مشيرة في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه بسبب استمرار البطء في تحقيق العدالة لابنها، رفعت يدها للسماء طالبة تحقيق العدالة لها ولبقية الأسر المكلومة. وتكشف أنها تخلّت منذ فترة عن متابعة أعمال لجنة التحقيق الوطنية.
على المستوى السياسي، أصدرت الأحزاب والتحالفات السياسية بيانات لإحياء ذكرى المجزرة وللمطالبة بالقصاص للضحايا، فيما اختار تجمّع المهنيين السودانيين توجيه خطاب رسمي للحكومة لإعلان اليوم يوماً للحداد الوطني وتنكيس الأعلام بجميع المقرّات الرسمية وغير الرسمية داخل السودان وممثليات الخرطوم في كل أنحاء العالم، حِداداً على ضحايا مجزرة فضّ الاعتصام أمام القيادة العامة بالعاصمة. وجدّد التجمّع التأكيد على عدم التنازل عن القصاص للضحايا. بدوره، أصدر حزب المؤتمر السوداني بياناً في هذا السياق، كما غرّد رئيسه عمر الدقير، في حسابه على "تويتر"، معتبراً أن "واجب السلطة الانتقالية هو الكشف عن المتورطين في مجزرة فض الاعتصام وتقديمهم للمحاكمة العادلة". وأوضح أن الموضوع مطلب عدلي وأخلاقي ووطني لا مجال للتنازل عنه أو المساومة فيه".
من جهته، يؤكد عضو مجلس السيادة الانتقالي محمد الفكي سليمان، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن جريمة فض الاعتصام من الجرائم الكبرى التي هزت وجدان الشعب السوداني بعد انتصار ثورة شعبية عظيمة. وجاءت الحادثة في اللحظة التي كان الشعب يحتفل فيها بالانتصار والتفكير في مستقبل بلاده وتشكيل مؤسسات انتقالية، وحصلت عملية الغدر والقتل من دون واعز أخلاقي أو سياسي.
ويشير سليمان إلى أنهم في مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وجدوا أنفسهم بعد تعيينهم أمام عبء ثقيل تحمّلوا مسؤوليته، ومتعلق بالقصاص لضحايا فض الاعتصام بموجب الوثيقة الدستورية التي سمّت الجريمة من دون سائر الجرائم الأخرى، وحدّدت لها لجنة تحقيق مستقلة. ويرى أن العبء ازداد صعوبة بسبب الرغبة بالمواءمة بين القصاص وتحقيق الاستقرار في البلاد وعدم تكرار الحادثة. ويضيف أن الحكومة لا تزال تتحمل الضغوط الكثيفة الناتجة عن تأخر إعلان نتائج التحقيق، وهو أمر ليس بمقدور مجلس السيادة ولا مجلس الوزراء التدخل فيه، لأن اللجنة مستقلة عن الجهاز التنفيذي. ويشدّد على أن الأمل كان معقوداً على اللجنة لإعلان نتائجها قبل مرور عام من المجزرة، في ظلّ امتلاكها صلاحيات واسعة مقرونة بحقها في الاستعانة بأي دعم أفريقي.
ويعتبر سليمان أنه لا مناص مطلقاً من الكشف عن المتورطين في المجزرة ومحاسبتهم. وحول مدى تأثير تسمية أي شخصيات عسكرية متورطة للمشاركة في العملية السياسية والشراكة بين العسكر والمدنيين، يؤكد عضو مجلس السيادة أن الذي يؤثر على العملية السياسية وحده، هو التغاضي عن الحقيقة وإفلات المتهمين من العقاب.
أما القيادي في قوى الحرية والتغيير، معز حضرة، فيصنّف ما حصل في صبيحة 3 يونيو/ حزيران 2019 بـ"الحدث الأكثر إيلاماً في التاريخ السوداني"، لا سيما أنه ارتبط بالغدر من جهات كان عليها حماية المعتصمين لا قتلهم، وهم ينتظرون عيد الفطر ويحلمون بغد أفضل في الحرية وسيادة حكم القانون. ويوضح حضرة لـ"العربي الجديد"، أن كل الدلائل والمؤشرات تشير إلى تورط العسكر في الجريمة، بما في ذلك تصريحاتهم قبل أيام من الواقعة، وكذلك العدد الكبير من مقاطع الفيديو التي سجلها الثوار لحظة الفض، عدا آلاف الشهود الذين كانوا هناك، رافضاً الخوض في أعمال لجنة التحقيق إلى حين إعلان نتائجها.