09 نوفمبر 2024
عاصمة الثقافة الإسلامية
جرى اختيار عمّان، عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2017، أي العاصمة الثقافية للبلدان الأعضاء في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، وهي التي قرّرت هذا الاختيار.
هذه المهمة، التي سبق أن تولتها مدن عربية وإسلامية عديدة على مدار السنوات الفائتة، يمكن أن تكون فرصةً كبرى لكل مدن العالمين، العربي والإسلامي، التي تتولاها، لتعميق دور الثقافة في المسألة الحضارية، أي في العمل على تطوير المفاهيم السلوكية للمجتمعات العربية والمسلمة، وتنميتها، على طريق المضي بشعوبنا وبلداننا من الحالة الحضارية المتأخرة، إلى حالة أكثر تقدماً. لكن "موضوع الثقافة" في بلداننا، يبدأ بماهية فهمنا دور الثقافة في التنمية، وهو فهم أجده مرتبكاً عند قطاعات واسعة من المشتغلين بالإدارة الثقافية، فضلاً عن المثقفين والمؤسسات الثقافية.
الأدوار الرائجة للثقافة، لا تتجاوز هذه الأربعة: رعائي: أي يقوم على رعاية المثقفين ودعمهم مالياً، ويسلط الضوء على منجزاتهم وإبداعاتهم، وينقل أعمالهم خارج الحدود، فيحرز لهم شهرةً من جهة، ويستثمرهم في إيجاد صورة أكثر زهواً للبلاد في الخارج، من جهة ثانية. دعائي: يهتم بتكريس الواقع القائم أياً كان، في بعديه الاجتماعي والسياسي، ولا يعترف بأي حاجة للتطوير، ما يحوّل العمل الثقافي ميداناً لتنفيع الموالين، والتضييق على المخالفين. ترفيهي: يتعاطى مع الثقافة باعتبارها مجالاً للترويح عن النفوس، وإعدادها للانخراط في العمل "الجاد" في الميادين الأخرى التي لا يكون ميدان الثقافة واحداً منها بالطبع. الثقافة بهذا المعنى ليست إلا زينة إضافية، ولا ضير من غيابها. تنموي: يفهم الثقافة على أنها مجموعة القيم التي توجه سلوك المجتمع وخياراته. ومن ثم، فهو يركّز جهوده في تنمية منظومة القيم تلك لدى الناس، بحيث تلبي حاجات الدولة الحديثة ومفاهيمها، وفي مقدمتها مبادئ احترام النظام العام والقانون والعمل المؤسسي.
غير أن "موضوع الثقافة" في بلادنا ينظر إليه كثيرون باعتباره تكميلياً وثانوياً، في مختلف القطاعات الإدارية والتربوية والإعلامية. وهو ما يفسر حصر الثقافة تقليدياً في ثنائية "دعم المثقفين" و"ممارسة الخطاب التعبوي"، فيما "الدور التنموي" للثقافة هو الأكثر غياباً واستبعاداً.
يترافق هذا الارتباك الإداري في فهم دور الثقافة، مع وجود مطلبٍ شائع لدى الأوساط المشتغلة بالثقافة في بلداننا، مفاده الدعوة إلى زيادة المخصصات المالية والإنفاق المالي الحكومي، في حقل الثقافة، وهو مطلبٌ محقٌّ من حيث المبدأ، ما دامت الثقافة مجالاً أساسياً لتنمية المجتمعات والرقي بسلوكها؛ إذ كيف يمكن إنجاز مهمات حضارية من ذلك النوع المتعلق بالسلوك المجتمعي، بمخصّصات مالية محدودة؟! لكن المسألة في ظني لا تتمحور حول توفير المال اللازم للثقافة وحسب، بل قبل ذلك حول طريقتنا في توجيه ذلك المال، وإنفاقه حال توفره.
جرت العادة أن المطالب المتعلقة بإنفاق ذلك المال، ومن ثم الطريقة التي ينفق بها فعلاً، لا تمضي في طريق إصلاح ثقافة المجتمع، بهدف تنميتها، كما يمكن أن يُفترض منطقياً في مجتمعاتنا العربية المحتاجة للنهوض الحضاري، بل على العكس: إن طريقة إنفاق ذلك المال تخضع لثقافتنا المتأخرة السائدة، فتستعمله، على الأغلب، من أجل الترفيه والدعاية، أو تنفيع المحاسيب والأصدقاء، من دون جدوى تنموية، فكيف بعدها نتساءل: لماذا تتردّى ثقافة مجتمعاتنا باتجاه العنف والعصبيات والفساد البنيوي، ولا تفعل الثقافة فيها مفاعيلها، كأن تسعى إلى دفعها نحو احترام القانون، واحترام الحق في الاختلاف والتنوع، والحرية، وغيرها من القيم؟!
ثمّة حاجة ملحّة لتغيير "الخطاب الثقافي" السائد في العالم العربي الذي يجعل المنتجات الثقافية غاية التمويل، بدل أن تكون وسيلته من أجل تحقيق التنمية. والمعنى أن مطالب التمويل ستكون محقةً أكثر لو اتضحت الأهداف التنموية الاستراتيجية المرتجاة في المجتمعات من وجود المنتجات الثقافية، وليس فقط ماهية تلك المنتجات الثقافية، وأهلية القائمين عليها من مثقفين وفنانين، وذلك لأن التمويل سيتكرس ساعتها باعتباره موجهاً للمجتمعات من خلال هؤلاء المثقفين والفنانين.
ومن فائض القول إن مساعي التنمية من خلال المنتجات الثقافية لا يجوز أن تنطوي على أدلجة تلك المنتجات، أو تحميلها خطاباً مباشراً فظاً، فيكفي على سبيل المثال أن تتولى الفنون البصرية مهمة رفع الذائقة البصرية لدى المتلقين، ليكون لها دورها بعيد المدى في الانتقال من ثقافةٍ تقوم على الإكراه، إلى ثقافةٍ تقوم على الحريّة.
هذه المهمة، التي سبق أن تولتها مدن عربية وإسلامية عديدة على مدار السنوات الفائتة، يمكن أن تكون فرصةً كبرى لكل مدن العالمين، العربي والإسلامي، التي تتولاها، لتعميق دور الثقافة في المسألة الحضارية، أي في العمل على تطوير المفاهيم السلوكية للمجتمعات العربية والمسلمة، وتنميتها، على طريق المضي بشعوبنا وبلداننا من الحالة الحضارية المتأخرة، إلى حالة أكثر تقدماً. لكن "موضوع الثقافة" في بلداننا، يبدأ بماهية فهمنا دور الثقافة في التنمية، وهو فهم أجده مرتبكاً عند قطاعات واسعة من المشتغلين بالإدارة الثقافية، فضلاً عن المثقفين والمؤسسات الثقافية.
الأدوار الرائجة للثقافة، لا تتجاوز هذه الأربعة: رعائي: أي يقوم على رعاية المثقفين ودعمهم مالياً، ويسلط الضوء على منجزاتهم وإبداعاتهم، وينقل أعمالهم خارج الحدود، فيحرز لهم شهرةً من جهة، ويستثمرهم في إيجاد صورة أكثر زهواً للبلاد في الخارج، من جهة ثانية. دعائي: يهتم بتكريس الواقع القائم أياً كان، في بعديه الاجتماعي والسياسي، ولا يعترف بأي حاجة للتطوير، ما يحوّل العمل الثقافي ميداناً لتنفيع الموالين، والتضييق على المخالفين. ترفيهي: يتعاطى مع الثقافة باعتبارها مجالاً للترويح عن النفوس، وإعدادها للانخراط في العمل "الجاد" في الميادين الأخرى التي لا يكون ميدان الثقافة واحداً منها بالطبع. الثقافة بهذا المعنى ليست إلا زينة إضافية، ولا ضير من غيابها. تنموي: يفهم الثقافة على أنها مجموعة القيم التي توجه سلوك المجتمع وخياراته. ومن ثم، فهو يركّز جهوده في تنمية منظومة القيم تلك لدى الناس، بحيث تلبي حاجات الدولة الحديثة ومفاهيمها، وفي مقدمتها مبادئ احترام النظام العام والقانون والعمل المؤسسي.
غير أن "موضوع الثقافة" في بلادنا ينظر إليه كثيرون باعتباره تكميلياً وثانوياً، في مختلف القطاعات الإدارية والتربوية والإعلامية. وهو ما يفسر حصر الثقافة تقليدياً في ثنائية "دعم المثقفين" و"ممارسة الخطاب التعبوي"، فيما "الدور التنموي" للثقافة هو الأكثر غياباً واستبعاداً.
يترافق هذا الارتباك الإداري في فهم دور الثقافة، مع وجود مطلبٍ شائع لدى الأوساط المشتغلة بالثقافة في بلداننا، مفاده الدعوة إلى زيادة المخصصات المالية والإنفاق المالي الحكومي، في حقل الثقافة، وهو مطلبٌ محقٌّ من حيث المبدأ، ما دامت الثقافة مجالاً أساسياً لتنمية المجتمعات والرقي بسلوكها؛ إذ كيف يمكن إنجاز مهمات حضارية من ذلك النوع المتعلق بالسلوك المجتمعي، بمخصّصات مالية محدودة؟! لكن المسألة في ظني لا تتمحور حول توفير المال اللازم للثقافة وحسب، بل قبل ذلك حول طريقتنا في توجيه ذلك المال، وإنفاقه حال توفره.
جرت العادة أن المطالب المتعلقة بإنفاق ذلك المال، ومن ثم الطريقة التي ينفق بها فعلاً، لا تمضي في طريق إصلاح ثقافة المجتمع، بهدف تنميتها، كما يمكن أن يُفترض منطقياً في مجتمعاتنا العربية المحتاجة للنهوض الحضاري، بل على العكس: إن طريقة إنفاق ذلك المال تخضع لثقافتنا المتأخرة السائدة، فتستعمله، على الأغلب، من أجل الترفيه والدعاية، أو تنفيع المحاسيب والأصدقاء، من دون جدوى تنموية، فكيف بعدها نتساءل: لماذا تتردّى ثقافة مجتمعاتنا باتجاه العنف والعصبيات والفساد البنيوي، ولا تفعل الثقافة فيها مفاعيلها، كأن تسعى إلى دفعها نحو احترام القانون، واحترام الحق في الاختلاف والتنوع، والحرية، وغيرها من القيم؟!
ثمّة حاجة ملحّة لتغيير "الخطاب الثقافي" السائد في العالم العربي الذي يجعل المنتجات الثقافية غاية التمويل، بدل أن تكون وسيلته من أجل تحقيق التنمية. والمعنى أن مطالب التمويل ستكون محقةً أكثر لو اتضحت الأهداف التنموية الاستراتيجية المرتجاة في المجتمعات من وجود المنتجات الثقافية، وليس فقط ماهية تلك المنتجات الثقافية، وأهلية القائمين عليها من مثقفين وفنانين، وذلك لأن التمويل سيتكرس ساعتها باعتباره موجهاً للمجتمعات من خلال هؤلاء المثقفين والفنانين.
ومن فائض القول إن مساعي التنمية من خلال المنتجات الثقافية لا يجوز أن تنطوي على أدلجة تلك المنتجات، أو تحميلها خطاباً مباشراً فظاً، فيكفي على سبيل المثال أن تتولى الفنون البصرية مهمة رفع الذائقة البصرية لدى المتلقين، ليكون لها دورها بعيد المدى في الانتقال من ثقافةٍ تقوم على الإكراه، إلى ثقافةٍ تقوم على الحريّة.