عاد "توما هوك" إلى المنطقة.. فانتبهوا

03 أكتوبر 2014

المدمرة سانت جورج تطلق "توما هوك" من شرق المتوسط(23مارس/2003/Getty)

+ الخط -

"توما هوك" هو الصاروخ كروز الأميركي الشهير، عرفته منطقتنا العربية في عام 1991، عندما قادت أميركا تحالفها الأول في المنطقة، وأطلقت حربها الشهيرة بعاصفة الصحراء، لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها. شاهدناه، حينها، في أول حرب "لايف.. أون لاين"، تعرضها شاشات التلفاز مباشرة. وكان ما شاهدناه هو الجيل الأول من هذه الصواريخ، دقيقة التوجيه بعيدة المدى شديدة التدمير، والتي يتم إطلاقها من الجو أو من البحر، ثم شاهدنا "توما هوك" مرة أخرى في عام 2001، عند انطلاق الحرب الأميركية الأولى على الإرهاب، بعد 11 سبتمبر، بغزو أفغانستان.

وعلى الرغم من أنه لم يسقط في منطقتنا العربية في تلك المرة، إلا أننا شاهدناه بفضل اُسلوب الحرب على الهواء الذي أصبح نمطاً معتاداً للحروب الأميركية، ثم عاد إلينا كروز توما هوك بشكل أكثر حضوراً وكثافة وضجيجاً، أيضاً، وهو مزهو بأنه أصبح يمثل الجيل الثاني، وذلك في الحرب الأميركية لغزو العراق، في مارس/آذار ٢٠٠٣، والتي قادت فيها الولايات المتحدة تحالفاً دوليا جديداً، وكان توما هوك، أيضاً، نجم احتفالية غزو العراق واحتلاله، على مدى 500 ساعة حتى دخول بغداد. بالطبع، لم يكن توما هوك بمفرده، بل كان بصحبة إخوة له، ربما أكثر تطوراً أو دقة أو مرونة في الاستخدام. ولكن بقي هو الأشهر.

المشترك بين النماذج الثلاثة التي أشرنا إليها في استخدام توما هوك أنه كان لكل منها هدف كبير، ترتب عليه تحول خطير في الموقف. في المرة الأولى، تم تحرير الكويت وإعادتها لأصحابها وحكامها. وفى النموذج الثاني، تم غزو أفغانستان، وإزالة حكم حركة طالبان، ومطاردة "القاعدة" وكسر شوكتها. وفى النموذج الثالث، تم غزو العراق واحتلاله، وهدم النسق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للنظام العراقي، وإثارة حالة من الاضطراب الطائفي والعرقي لا زالت قائمة. ثم حدث التطور الدراماتيكي في إعلان "الدولة الإسلامية" من الموصل، ومبايعة أول خليفة لها، هو أبوبكر البغدادي في يونيو/حزيران الماضي. ثم تمدد الدولة الإسلامية تلك بين العراق والشام في الأراضي السورية، وتحولها إلى قوة مرهوبة الجانب، من الجيشين النظاميين، العراقي والسوري، وقوات البشمرجة الكردية. ورأينا مشهداً مثيراً لقوات تلك الجيوش، وهي تفر هاربةً، تاركةً معداتها وأسلحتها وقواعدها الجوية والبرية، لتقع في أيدي مقاتلي تنظيم الدولة. هنا، وهنا فقط، هبت أميركا منتفضة صارخة في البرية.. إرهاب.. إرهاب.. وطالما هو إرهاب فلا بد من تحالف.. ولأنه في قلب المشرق العربي، فلا بد أن يبدأ التحالف عربياً، ثم إقليمياً فدولياً. وكان التحالف قد انطلق من جدة، بحضور عشر دول عربية وتركيا، ثم انتقل إلى باريس، ليأخذ الطابع الدولي، ثم انطلقت الصواريخ كروز توما هوك في اتجاه الأراضي السورية، وبالطبع مصحوبة بغارات جوية من خمس دول عربية، في إطار التحالف الجديد ضد الإرهاب الإسلامي الداعىشي.

لكن، ما يجب أن نتوقف عنده أمران، الأول أن المرات السابقة التي انطلقت فيها صواريخ توما هوك كانت موجهة ضد دولة: العراق ثم أفغانستان ثم العراق. أما هذه المرة فقد انطلقت الصواريخ ضد تنظيم. ولعل هذا ما يفسر استخدام أميركا مصطلح "تنظيم الدولة الإسلامية"، للإيهام بأنها تحارب دولة، خصوصاً أن هذا التنظيم موجود بالفعل على أراضي دولتين، مفترض أن كلا منهما ذات سيادة. الثاني، والأهم، ما الهدف الرئيسي الذي يمكن أن يترتب على تحقيقه تغيير جوهري في البيئة الإقليمية والدولية؟ بالقطع، لا يمكن أن يكون الهدف أقل من الأهداف التي انطلق من أجلها "توما هوك" في المرات الثلاث السابقة، والتي لم تكن أقل من تغيير نظام واقتلاعه من جذوره، لكننا أمام حالة مختلفة، فالعدو المستهدف ليس دولة لها أبعاد چيوبولتيكية ملموسة، ولا إطاراً ونظاماً سياسياً محدداً، لا حدود ولا مقومات ولا حكومة ولا مؤسسات. ولكن، تنظيم مسلح لديه موارد مالية هائلة، وموارد بشرية مؤهلة ومتنوعة ومتعددة الأجناس، أيضا، ولكن تجمعها عقيدة واحدة، يقاتلون مدفوعين بتعاليمها، كما يؤمنون بها، ويعتقدون أنها الحق، وتستحق الموت من أجلها. إذن، أي دولة تريد أميركا أن تهدمها؟ وأي نظام تريد أن تقتلعه؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلابد أن هناك هدفا آخر للكروز توما هوك مختلفاً عما سبق من أهداف، ولكن، بالقطع، لا يقل أهمية. فأميركا لا تدعو إلى تحالف إقليمي ودولي تجاوز الأربعين دولة، ولا تستصدر القرارات من مجلس الأمن الدولي، ولا تحرك البوارج، وترفع درجة استعداد القيادات والقواعد العسكرية، وتدفع الأجيال الجديدة من صواريخها وقاذفاتها، وأيضاً، تقبل مواءمات سياسية في علاقاتها الدولية، ما لم يكن الهدف يستحق بالفعل، فما هو؟

ولأننا لسنا في مجال التنجيم، ولا ادّعاء المعرفة لما هو غير معلوم بطبعه، فليس أمامنا سوى إعمال الفكر في التحليل للمشهد، ومن دون أن نذهب بعيداً تفتيشاً في الخلفيات، يكفي أن نبدأ من 14 يونيو 2014، عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل، وأعلن سقوطها في يده تماماً، وأيضاً إلغاء ومنع استخدام مسمى "داعش". كان المشهد مثيراً بالفعل، الجيش العراقي الحديث يتهاوى، يلوذ بالفرار، تاركاً كل شيء، لا يرجو سوى السلامة! ثم توالت الأحداث بسرعة التمدد في كل الاتجاهات وكل المحافظات السنية في العراق... تهديد بغداد، ثم تهديد أربيل، اجتياح الحدود العراقية السورية عند منطقة وفتحها، والتمدد في الأراضي السورية، والاستيلاء على محافظة الرقة كاملة، والاتجاه نحو حلب. وكان المثير السرعة الهائلة وانعدام المقاومة في وجه الزحف الداعشي. ثم ظهرت اتجاهات لدى تنظيمات راديكالية أخرى للتحالف، أو الاندماج مع تنظيم الدولة، التي أعلنت مبايعة الخليفة الجديد أبوبكر البغدادي. هنا، تنبهت أميركا للخطر الداهم، القادم على كل مخططاتها للشرق الأوسط الجديد، وهو في هذه المرة خطر حقيقي، غير ما حاول بعضهم أن يدّعيه بأن حركة 3 يوليو 2013 في مصر أفشلت المشروع الأميركي في المنطقة.

أصبح واضحا لأميركا، بل شبه مؤكد، أنها لو تركت الأمور تسير كما هي، لاستيقظت، ذات صباح قريب، لتجد تنظيم الدولة الإسلامية قد بسط نفوذه على دمشق وبغداد، و(الخليفة) أبوبكر البغدادي يخطب من العاصمتين، طالباً من حكام العرب البيعة، على أن يعينهم ولاة على أمصارهم، وهو ما لا يمكن أن تقبل به أميركا، ولا حلفاؤها في الغرب، ولا يتحمله حلفاؤها من العرب، ولا يمكن أن تغامر بانتظاره حتى يحدث، فكان لابد من عودة "توما هوك" إلى المنطقة. وهذه المرة، لا ليسقط دولة، ولكن ليمنع قيام دولة.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.