لم تعد الهجرة السرية في قوارب الموت، عبر البحر الأبيض المتوسط، تقتصر على فئتي الشباب والقاصرين غير المصحوبين بذويهم، في تونس، بل امتدت إلى العائلات التي تحاول الوصول إلى الحلم الأوروبي، بكامل أفرادها، وهو ما يزيد من المآسي
عاد ملف الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط بقوة في الأشهر القليلة الماضية، بالرغم من تراجع هذا النشاط في الأشهر الأولى من هذا العام بدوافع عدة، أبرزها انتشار فيروس كورونا الجديد بقوة في الدول الأوروبية التي يقصدها المهاجرون عبر البحر عادة، ولا سيما إيطاليا وإسبانيا. ومع هذه العودة القوية لنشاط الهجرة عبر البحر، وما فيه من خطورة على المهاجرين الذين يستقلون مراكب متهالكة عادة تحمل أكثر بكثير من طاقتها، تميز مهاجرو تونس هذه المرة بأنّ من بينهم عائلات بكامل أفرادها، تخوض الرهان على النجاح في الوصول إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط. وتكشف هجرة العائلات التونسية عن تحولات عميقة في مسارات الهجرة، فيما يقف خلف ذلك عدد من الأسباب.
راضية التي تبلغ أربعة وثلاثين عاماً، أم لطفلين لديهما إعاقة حركية، فقدت عملها منذ بدء جائحة كورونا في تونس، هي التي كانت توفر قوتها وقوت أسرتها، فلم تعد تتمكن من ذلك. لكنّها الآن بصدد التفكير في الهجرة مع عائلتها، بحسب ما تؤكد لـ"العربي الجديد". تشير إلى أنّها ستحاول برفقة زوجها العامل اليومي، الهجرة السرية في أحد القوارب، من أجل تحسين ظروف الأسرة وضمان علاج طفليهما، لافتة إلى أنّه سبقت لزوجها محاولة الهجرة بمفرده، على أمل أن تلتحق به لاحقاً، لكنّ محاولته فشلت، لذلك تخطط الأسرة لخوض المغامرة معاً هذه المرة. وفي 22 أغسطس/ آب الماضي تمكنت دورية تابعة للحرس البحري في صفاقس، بوسط تونس، من إحباط هجرة 34 شخصاً، من بينهم عائلة تتكون من زوجين و6 أبناء، بالإضافة إلى أحد أقاربهم، وهو قاصر. وفي يوليو/ تموز الماضي، حاولت عائلة تونسية تتكون من 7 أشخاص اجتياز الحدود على متن مركب صيد، من أجل علاج ابنها المريض الذي كان قد تعرض لحادث مرور، فمنعتها وحدات الحرس البحري.
وبينما فشلت هاتان المحاولتان، نجحت محاولة ثالثة في الوصول إلى جزيرة لامبيدوزا في أقصى الجنوب الإيطالي. وفي هذه المحاولة الناجحة، هاجرت أسرة صياد تونسي تتكون من 7 أفراد من منطقة الشابة بالمهدية، إلى إيطاليا، وكانت من بينهم طفلتان لديهما إعاقة حركية. كذلك، تمكنت أربع عائلات من منطقة المهدية كانت مصحوبة بأطفالها من الوصول إلى لامبيدوزا في يوليو/ تموز الماضي، وبينما كانت المعلومات ضئيلة عنهم، ذُكر أنّهم عبّروا عن سعادتهم بالنجاح في عبور المتوسط.
في هذا الإطار، يقول الاختصاصي في علم الاجتماع، عبد الستار السحباني، لـ"العربي الجديد"، إنّ هذا النشاط يكشف عن تحولات كبيرة في مسارات الهجرة التي تحولت من فردية إلى جماعية تشمل الأقران والأصدقاء، لكنّها الآن اتخذت مسارات عائلية، فنجد الزوجة والزوج والأبناء، كذلك لوحظت حتى هجرة حوامل، وهو ما يطرح عدة أسئلة عن التغيرات الحاصلة في تونس. يتابع قائلاً إنّه سبق لعائلات من أفريقيا جنوب الصحراء الانتقال إلى تونس معاً ومحاولة عبور المتوسط، وعادة ما يكون معهم رضع وقاصرون، فيتحول مشروع الهجرة إلى هجرة عائلية. يعلّق السحباني بأنّه لا وجود لأيّ عقل يمكن أن يتقبل تضحية أسرة بكاملها بحياتها في عرض البحر المتوسط، علماً أنّها قد تصل، وقد تفشل، فيكون الموت مصير جميع أفرادها. يضيف أنّه في السابق كانت المغامرة تقتصر على فرد واحد من الأسرة، لكنّها الآن تشمل كامل الأفراد. ويشير إلى أنّ الآفاق المغلقة كالبطالة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة، قد تكون من دوافع هذه الهجرة العائلية "لكنّ هذه العوامل كانت قائمة سابقاً، وكانت هناك دائماً ظروف مادية واجتماعية وراء الهجرة، لكنّ ذلك لا يبرر ولا يفسر المسألة، بل هناك إشكاليات أعمق، فالهجرة السرية خلفها تنظيم، وهناك لوبيات وأموال وأشخاص نافذون يستفيدون من المسألة، وهذا السلوك الذي تطور مع الزمن، تقف خلفه شبكات تبدو خيوطها متداخلة، وهؤلاء يسعون إلى عدم توقف الهجرة، بل هدفهم أن تتطور وتشمل أيّ فئة، حتى العائلات". ويلفت إلى أنّ هناك استثماراً في الهجرة السرية، إذ لم تعد مشروعاً فردياً، بل عائلياً، خصوصاً أنّ أكبر ممول للهجرة هو الأسرة، فالأم تبيع ذهبها، والأب يقترض لتسهيل هجرة أحد أبنائه، وبالتالي فالأسرة مشاركة في الهجرة من الأساس. ويلفت إلى أنّ وصول عائلة إلى ضفة المتوسط يختلف عن وصول شخص بمفرده، لأنّ هناك منظمات وجمعيات تسهل استقبال هؤلاء، وتساعد على دمج هذه الفئات، خصوصاً إذا كان هناك أطفال وحوامل ومرضى، وعادة تُلقَّن الأسر المهاجرة مسبقاً ما ستقوم به عند الوصول، وأغلبها يعرف بالفعل ذلك ويخطط للهجرة على هذا الأساس.
من جهته، يرى المسؤول عن الإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أنّ هجرة العائلات التونسية كانت موجودة سابقاً، لكنّها ليست بذات النمط والتواتر الحالي، مؤكداً أنّ المنتدى سجل خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام الحالي (منذ بداية مارس/ آذار حتى نهاية أغسطس/ آب الماضيين) هجرة ما بين 70 و90 عائلة تونسية ممن وصلت إلى السواحل الإيطالية، ووُثِّقَت بعض الرحلات عبر شبكات التواصل الاجتماعي. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ المسألة تحتاج إلى دراسات عميقة، خصوصاً أنّ العديد من الآباء كانوا يقاومون مشروع هجرة أبنائهم، ويرفضون حتى الحديث عنها، وتمويلها، وبالتالي فإنّ السؤال المطروح الآن: ما الذي تغير في تونس لتشارك بعض الأسر في الهجرة وتتحول من مقاوِمة للمشروع إلى منخرطة فيه؟ يجيب بأنّ الأسباب الاجتماعية والاقتصادية تبقى عاملاً من العوامل، لكنّ أبرز عنصر أو دافع هو عدم الشعور بالأمان، في التعليم والصحة والتوظيف، إذ إنّ التقصير في الخدمات يدفع بعض الأسر إلى البحث عن البديل، وعن مستقبل أفضل لأبنائها. ويؤكد أنّ العديد من الأسر ترفض ترك القاصرين بمفردهم، ولذلك تختار مرافقتهم كشكل من أشكال الحماية والضمانة والمواكبة لهم، خصوصاً إذا كان الأبناء والبنات من الأشخاص ذوي الإعاقة. ويلاحظ بن عمر أنّ الترحيل من البلد المضيف لا يشمل بعض الفئات، كالأطفال والنساء والمرضى، وبالتالي لا يجري عادة ترحيل الأسر، بل لم يسبق فعل ذلك، فأغلب الأسر تعيش في مراكز إيواء مؤقتة بانتظار النظر في وضعها.