طليطلة الإسبانية: مهد التعايش بين الحضارات والأديان

09 سبتمبر 2019
من الصعب ألا تصادف معلماً تاريخياً أو أثرياً (Getty)
+ الخط -
في صباح يوم مشمس من أيام مدينة طليطلة (توليدو بالإسبانية)، تقود المرشدة السياحية، بالوما سانشيز، مجموعة من السياح المتعطشين لمعرفة المزيد حول المدينة. بالوما هي إحدى المترجمات اللواتي وقعْنَ في حب التاريخ بالصدفة، إذْ دفعتها الأزمة الاقتصادية، قبل خمس سنوات، للتحول من ترجمة الكتب والمحاضرات إلى العمل في السياحة، وتشير بالوما إلى أنّ طليطلة منحتها فرصة قراءة التاريخ. 

وسط إسبانيا، وعلى مرتفعٍ مُحاط بأوديةٍ عميقة، تنام مدينة طليطلة على بعد 75 كيلومتراً جنوب العاصمة الإسبانية مدريد، ويبلغ عدد سكانها حوالي 83 ألف نسمة. لا يُمكِن تجاهل التاريخ الحي في شوارع المدينة العريقة، والتي تمثل اليوم عاصمة مقاطعة توليدو، ومنطقة كاستيا لا ماتشا Castile-La Mancha، إذْ تبدو كما لو كانت جوهرة في حضن الطبيعة، تحيطها المياه من ثلاث جهات، لذلك أُطلِق عليها اسم "توليدو" الذي يعني بالرومانية المدينة المحصنة، أو المدينة العصية على الاقتحام. شكّلت طليطلة مثالاً للتعايش بين أديان العالم وثقافاته، خصوصاً الديانات الثلاث. وقد عُرِفَت في العصور الوسطى باسم "مدينة التسامح"، إذْ كان يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون. وتشير بالوما إلى أنَّ "اليونسكو" أدْرجت طليطلة في قائمة مواقع التراث العالمي عام 1986.

من الصعب ألا تصادف معلماً تاريخيّاً أو مُتحفاً أو نُصباً تذكاريّاً لشخصيّة مؤثرة في تاريخ البشرية، عندما تمشي في شارع من شوارع طليطلة، التي تُعتبَر اليوم مدينة عصرية بطابع تاريخي. مسجد "باب المردوم" أو مسجد "نور المسيح" mezquita de Cristo de la Luz، هو من أقدم معالم المدينة، وقد تم بناؤه في نهاية القرن العاشر الميلادي، قبل أن يتمَّ تحويله في نهاية القرن الحادي عشر إلى كنيسة تسمى "نور المسيح". تقول بالوما لـ"العربي الجديد": "ظل مسموحاً لسكان طليطلة بالصلاة واللقاء في مسجد المردوم وبعض المساجد الأخرى حتى بعد سقوط الأندلس. وكان ذلك بارقة تعايش نادرة في أيام محاكم التفتيش ومطاردة اليهود والمسلمين في فترة عصيبة من تاريخنا".

غير بعيدٍ من مسجد المردوم، يقع مسجد تورنيرياس Mezquita de las Tornerias الذي يرجع تاريخ بنائه إلى القرن الحادي عشر للميلاد. إضافة إلى ذلك، تُعتبَر كنيسة سان رومان Iglesia de San Román أحد أهم معالم طليطلة، ويعود تاريخ بنائها للعهد القوطي. بُنيت الكنيسة على أطلال مبنى روماني قديم، حولها حكام الأندلس إلى مسجد، ولاحقاً بعد سقوط الأندلس، أعاد الملك ألفونسو السادس تسميتها ككنيسة في نهاية القرن الحادي عشر، ليشكل المبنى إعادة لقصة طليطلة التي تعاقبت عليها الحضارات، إذْ يبقى البناء دومًا، ولكن تتعدد وظائفه وتسمياته. المساجد والكنائس بالتحديد، تختلف كثيراً عن بقية معالم طليطلة، لأنها كانت مَعقلاً للفكر الديني. وكان السياسيون يهتمون بها أكثر من غيرها. لذلك تمكن قراءة تاريخ المدينة وإسبانيا والمنطقة، من خلال تاريخ مسجد أو كنيسة.

من جهة أخرى، ثمَّة تاريخ تحاول مدرسة المترجمين بطليطلة أن تجسد معانيه، وهي المؤسسة البحثية التابعة لجامعة كاستيا لا ماتشا. تعود بداية هذه المدرسة الحديثة إلى 1994، إذْ تأسست تحت لواء المجلس الجامعي لطُليطلة، وذلك بدعم من المُؤسسة الأوروبية للثقافة. لكنَّ التأسيس الفعلي للمدرسة كان في القرن الثاني عشر ميلادي خلال حكم ألفونسو السابع 1126-1157م. وقد شهدت أول عمل ثقافي مشترك، كان له تأثيرٌ منقطع النظير في مجال الترجمة. وعمل فيها المترجمون المسلمون واليهود والمسيحيون.

وتؤكّد بالوما أنَّ الباحثين في إسبانيا، اليوم، يعتقدون أن دخول مدينة طليطلة إلى العالم الرقمي والتكنولوجيا، هو فرصة لإعادة كتابة التاريخ وتجسيده في رؤية ثلاثية الأبعاد. وفي هذا الصدد، استطاع متحف طليطلة، أخيراً، إعادة السيف المزخرف الذي استخدمه محارب مسلم بلغ عمره 90 عامًا، في معركة في إسبانيا نهاية القرن الخامس عشر، إلى الحياة، وذلك في نسخة رقمية ثلاثية الأبعاد. ويعود هذا السيف إلى فارس عربي اسمه، علي العطار، قاتل حتى الموت، دفاعاً عن صهره، آخر سلاطين غرناطة. إعادة تصميم السيف تعطي قيمة للزخرفة العربية القديمة التي بلغت أوجها في دولة الأندلس. كما أنه يعيد هيبة الفارس العربي الحقيقية، والتي تم تشويهها بسبب كتابة المنتصر للتاريخ دومًا بروح نفسية عدائية.
المساهمون