طلاق بقرار من الأنفاق

26 نوفمبر 2014

فلسطيني يعبر في نفق بين غزة ومصر (نوفمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

اعتقدت أنها مجردةٌ من مشاعر الأمومة، حين طلبت مقابلتها، بعد أن علمت قرارها، فكيف ترمي أمّ أولادها الخمسة، وتطلب الطلاق؟ كيف تنساهم، أو كيف تستطيع النوم بعيداً عنهم؟ سألت نفسي أسئلة كثيرة، بصفتي أمّاً، ولم أجد جواباً يبرر فعلتها، لكنني حين جلست أمام عينيها اللتين تحجرت بهما الدموع، وأمام مشاعرها التي جمدتها بعد مكابدةٍ، عرفت أن هناك قوة أكبر من غريزة الأمومة، قادتها إلى قرارها. قالت لي: لم أعد أحتمل أن أراهم يتضورون جوعاً، لم أعد أستطيع سماع بكائهم، وهم يطلبون الطعام والملابس والأحذية، بعد أن جاعوا وارتدوا الأسمال والأحذية المهترئة. خرجت من البيت وتركتهم لأبيهم، لأنني لم أعد أحتمل عذابي من أجلهم. سأعيش مطلقة، وأزدرد اللقمة عند أبي، فمعهم أتعذب، ولا أجد لقمة لي أو لهم.
لم يكمل زوجها تعليمه، عمل سنوات عامل بناء، حتى ضرب الحصار حول غزة في العام 2007، فتوجه إلى العمل في حفر الأنفاق التي تصل بين غزة ومصر، وكان يعمل في حفرها ليلاً، ويعود فجراً إلى بيته منهكاً مترباً، وكأنه نجا من بين أنياب أسد متوحش. وتمر الأيام، قبل أن يتلقى أجره من عمله في مهنة الموت تلك، ثم أصبح يعمل في نقل البضائع التي تبلغ فوهة النفق إلى الشاحنات الضخمة، ولم يكن يتلقى أجراً منتظماً. لم يمنع ذلك أن تسير حياة عائلته بتعثر، إلى أن هدمت قوات من الجيش المصري معظم الأنفاق أسفل الحدود بين مصر وقطاع غزة، في حملة أمنيةٍ، شنتها على المنطقة الحدودية، بعد عزل الرئيس محمد مرسي. حينها، بدأ الفقر يكشّر عن أنيابه في وجه هذه العائلة، خصوصاً مع عدم تسديد "صاحب النفق" الأجرة المتأخرة لهذا العامل الذي يعيل عائلةً، ستعرف أياماً كثيرة من الفقر والفاقة، وستصل بها، نهاية المطاف، أن تترك الأمّ أولادها لأبيهم؛ لأنها لم تعد تحتمل بكاء أطفالها جوعاً يومين متتاليين.
فقد ثلاثة آلاف عامل فلسطيني من غزة أعمالهم في الأنفاق، وكان عدد العائلات التي كانت تعيش منها يقترب من هذا العدد أو يزيد، فهناك كثيرون يفتحون أكثر من بيت، فالفلسطيني الذي يعمل، مهما بلغ تواضع دخله، ينفق على بيته وبيت والديه العجوزين، وربما على بيت أخيه أيضاً. وهكذا ساءت الأوضاع بهذه الشريحة الكبيرة من المجتمع الغزي الذي تزداد أوضاعه سوءاً يومياً. 
أثّر إغلاق الأنفاق كثيراً على غزة التي تنام في الظلام، وتغلق المتاجر أبوابها باكراً، لشح البضائع التي كانت تصل عبر الأنفاق، وعدم توفر البنزين والسولار اللذيْن كان يجري تهريبهما من مصر، ويتم تشغيل المولدات الكهربائية المهربة، أيضاً، لكي تدور حركة الحياة في غزة. وإجمالاً، وصلت خسارة القطاعات الانتاجية إلى حوالي 60 %، أي حوالي 450 مليون دولار في نصف العام الأول من إغلاق الأنفاق وهدمها.
أطلق على مهنة عمال الأنفاق مهنة الموت، وقد أقبل عليها شباب غزة، بعد أن تقطعت بهم سبل العمل، على الرغم من أنهم يعلمون أنها ربما تنهار فوقهم فيموتون، أو يتم إنقاذهم من تحتها بأعجوبة، ويعودون إلى بيوتهم مشلولين، أو مبتوري الأطراف، لكنها كانت منفذاً، ونجاة لهم من انتظار الموت جوعاً. ومع إغلاقها، انضم هؤلاء العمال إلى قافلة العاطلين من العمل، والذين تؤكد إحصائية رسمية أن عددهم يصل إلى 160 ألف مواطن غزي.
 قالت لي في شبه هذيان، والتمست لها العذر: ليتني أستطيع أن أقاضي المسؤول عن هدم الأنفاق، أو إغلاقها، فعندما كانت الأنفاق تسبح، كمجرى الماء تحت الأرض، كنت بين أولادي نجوع يوماً ونشبع يوماً، أما الآن فقد تركتهم مكرهة للجوع، هم ووالدهم، وها أنا أموت كل لحظة بعيداً عنهم.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.