القمر الذي سقط في البئر
كانت طفلة جميلة، وتمتلك وجهاً بريئاً ومضيئاً مثل وجه القمر، ولو تحرّينا الصدق والدّقة، وجهُها أكثر جمالاً وصفاءً منه. ولأنها كانت جميلةً مثل القمر، أو أجمل منه، فقد سقطت فعلاً وحقيقة في البئر، وليس كما قرأنا ذات يوم في طفولتنا عن قصّة امرأة ساذجة، ذهبت قبل بزوغ الفجر إلى البئر القريب لتملأ دلوها بالماء، فإذا هي ترى صورة القمر قد انعكست على سطح ماء البئر الصافي، فبدأت بالصراخ، وتجمّع أهل القرية حولها، فيما كانت تستنجد بهم لإنقاذ القمر.
هل تسقط الأقمار في البئر حقاً؟ هل الأطفال الجميلون الأبرياء يغيّبهم البئر فعلاً؟ وهل هناك أطفالٌ في هذا العالم لا يلعبون في الحدائق تحت ظلال الأشجار، ولا يطاردون الفراشات، ويسابقون العصافير، ولكنهم يعيشون في الخيام؟ وتنهش جلودهم النيّئة الحشرات الشريرة؟ ويموتون وهم صغار ولا يكبرون، وموتُهم يكون بشعاً، فهم لا يرتدون الأكفان البيضاء، ولا تعرف لهم قبور ذات شواهد تحمل أسماءهم وتاريخ ولادتهم وموتهم، حتى حين تمرّ من أمامها تتنهّد في أعماقك، وتخمّن أن ذلك الطفل الراقد تحت الثرى ربما مات مصادفةً في حادث سيارة أو بمرض عضال، ولكن هناك أطفالاً لا يتم العثور عليهم ويصنّفون مفقودين، وآخرين متبخّرين، وآخرين عالقين تحت الأنقاض، ولم تنتشل جثثهم. أما من جرى انتشالهم، فهؤلاء قد جمعوا أشلاء، أو بأعضاء مبتورة، والأحسن حظاً فيهم يكون قد انشطر فقط إلى نصفين.
الآن أنت تجيب إجابة إيجابية حقيقية وموجعة، أن الأقمار تسقُط في الآبار، فهناك قمر صغير كان يتعلّم أوّل دروسه في الحبو، لم يعد كائناً ضعيفاً ساكناً في زاوية من الخيمة، فقد أصبح قادراً على الحركة ومحاولة اكتشاف العالم على بعد خطوات، أو خارج هذا المكان الذي ليس بالمغلق ولا المفتوح، فما يفصله عن صخب الآخرين وسعيهم نحو شبه حياة ستارة مهترئة. ولذلك خيّل لهذا الكائن أن الخروج هيّن، ولم يكن يعرف أن الخروج من الخيمة هو النهاية، أو السطر الأخير من أكثر القصص وجعاً وألماً.
سقطت الصغيرة كايلا، فيما فقدت أمّها طفلها الآخر وأباه في الحرب، ولم يعد لها سوى هذه الصغيرة التي تؤنس وحدتها وتشهد على دموعها، وتقبعان سويّاً في الخيمة، وتنتظران ماذا سيحدُث بعد هذا كله، ماذا سيكون هناك أكثر جزعاً ووجعاً من انشطار الروح.
أسرعت الصغيرة بحبْوها على أطرافها الأربعة نحو مخرج الخيمة، فلا يمكن أن تطلق على تلك الستارة المهترئة التي تحجب الأنظار عمّن داخلها، وتمنح خصوصية محدودة تكاد تكون مضحكة إلى حد البكاء، لا يمكن أن تطلق عليها مسمّى الباب، ولكن الفضول لاكتشاف ما وراء الستارة كان قاتلاً، وفرحة الطفلة بأنها قد أصبحت قادرة على الحركة مثل أمّها كانت طاغية.
أسرعت الصغيرة بحبوها، وأصبحت فعلاً خارج الخيمة، وصدَمت بكل هذا الخراب والبؤس، ولكنها استمرّت في حبوها، وربما اعتقدت وهلة أن ما بعد هذا كله جنّة، أو معالم حياة، والحقيقة أن ما رأته على بعد مسافة قصيرة من الخيمة كان واقعاً ممتدّاً إلى آخر ما قد يمتدّ إليه بصر إنسانٍ فارع الطول.
سقط القمر في البئر فعلاً، لأن الطفلة كايلا قد سقطت في بئر حفره البؤساء حولها كحفرة امتصاصية للتخلّص من الفضلات الآدمية، ولأن المكان أضيق مما قد تتخيّل الطفلة الحالمة بمساحة ممتدّة للحياة والمرح، ولأن الإمكانات متواضعة، أو تكاد تكون معدومة، فهذه البئر جرى حفرها بطريقة بدائية، وحذّر الكبار أطفالهم ممن هم أكبر من كايلا من السير بجوارها لكي لا ينزلق أحدُهم فيها، ولكن أحداً لم يحذّر كايلا، أو أنها لم تكبر لكي تفهم تحذيراتهم وتعيها جيداً، لأنها سقطت سريعاً وغابت في قعر البئر، تاركة خلفها أمّاً لن ترى بعدها إلا الظلام، فهل يضيء الظلامَ إلا القمر، وقمرها قد سقط في البئر.