طريق الرغبة دمشق/ بيروت: مقاومة اليومي للتاريخ

08 يونيو 2016
وسام الجزائري/ سورية
+ الخط -

لكل مدينة رغبتها الخاصة، وطرقها بالوصول إليها وإشباعها. الرغبة وطريقها، أمر يتشكّل تاريخياً ببطء عبر تراكم خبرات وتحايلات ومقاومات صغرى هي نتاج احتكاك اليومي المعاش والمتفتح على تحوّلات الواقع في صدامه مع تراث راسخ ومعاند للتغيير، فيجري التصادم بطيئاً حيناً وعنيفاً حيناً ليصنع هوية المدينة التي تشكّل الرغبة وطرقها أحد انتماءاتها المعلنة والسرّية، وفقاً لطبيعة كل مدينة وهويتها.

فللمدن الساحلية (وبيروت منها) هوية مختلفة عن مدن الداخل (مثل دمشق)، الأمر الذي يجعل الرغبة في كليهما محكومة بشروط الانتماءات المشكّلة للهوية على مدى عقود، مع محاولة الجزئي إيجاد مساحته ضمن هذا الفضاء لتغيير معالم الهوية.

المدن الساحلية تاريخياً مفتوحة للحرية (الاجتماعية تحديداً هنا) والبحارة والغرباء، محكومة بالجغرافيا التي فرضت عليها هويتها المتجددة والمتحوّلة بأسرع مما تتجدد وتتحوّل هوية المدن الداخلية التي تبدو ثابتةً وراسخة ذات هوية أقرب للثبات أو بطيئة التغيّر، ظاهرياً على الأقل، حيث تحافظ على ازدواجية قاتلة: ظاهر متعفف وباطن يوغل في الفتك والجشع والسرّية ومساحات رغبة مجنونة حد العربدة، في حين تعيش الأولى رغبتها علناً من دون خجل، وحدّ الإفراط أحياناً كأنما تدافع عن وجودها وحريتها وهويتها من خلال رغبتها التي تبالغ في إظهار معالمها.

في دمشق، يُعبّر عن الرغبة بسرية وتمارس بسرية محتجبة من خلف حجاب ضمن نسق عام مهيمن. من يشذ عنه يُعرف بسهولة أو يفضح، ففي دمشق تعرف بائعة الهوى حتى لو مشت في الشارع محجبة. ثمة حركات خارجة عن المألوف تدلّ عليها أو توحي بها: طبيعة اللباس، حركة العيون، الإشارات والإيماءات..

أما في بيروت، فتبدو الرغبة علنية، مباحة، تضيّع تلك الفوارق الصغيرة، فالطريق إلى الرغبة في دمشق محتجب هو الآخر، يمرّ بعدد من العادات والآليات التي عرفها الباحثون عنها، في حين تبدو بيروت متخففةً من كل ذلك، حرّة في إشهار رغبتها وفي طرق الطالبين لها.

هذا الفارق الجوهري والهوياتي بين المدينتين، له تأثير مباشر على كل فرد، الذي تتشكل رغبته وما يثيره وطريقة تعبيره عنها ضمن فضاء عام يؤطرها، فيكسبها آليات تعبير محددة، فالفرد في دمشق قد يستثار من رؤية امرأة تلبس لباساً ضيّقاً أو ما يظهر من فخذين تحت تنورة لن تعلو الركبة بكثير، أو جزء بارز من إبط أو نهد، أو جزء من ساق يلمع تحت ثوب شرعي أسود، لأن اللباس العام محتشم نوعاً ما وله تقاليد معينة تغيّرت تراجعاً منذ الستينيات حتى اليوم،

في حين تبدو بيروت على النقيض تماماً من ذلك، فهذا العري المفتوح والمباح يقتل الرغبة أو يضلل طرق التعبير عنها لمن عاش في مدن لها خرائطها السرية للرغبة. وهذا يجعل الطلب على الرغبة والجنس في دمشق أكثر مبالغة وتطلباً من بيروت التي تعيش الأمر كحالة طبيعية.

المدن السرية والباطنية كدمشق تدفع أبناءها نحو طرق سرية للمتعة، في حين لا يحتاج أبناء المدن المفتوحة كبيروت لذلك، وهو أمر يمكن تبينه بوضوح من مواقع الدردشة والتواصل الاجتماعي، فنسبة حضور أفراد المدينة الأولى أكثر من الثانية بكثير، مع تضخم افتراضي في حضور أنواع الجنس غير التقليدية مقابل ضمورها، لأن من يريدها يحصل عليها واقعياً وعلناً فلا يضطر للافتراضي.

نزوح السوريين إلى بيروت جعلهم يعيشون هذا الفارق كصدمة فهم لم يعتادوا التعبير عن رغبتهم بمثل هذا العلن، ولا يعرفون كيف يمارسون رغبتهم في الهواء الطلق، فكان لصدمة الجنس (العبارة مشتقة من قبلي من مصطلح صدمة الحداثة) تأثيرها البالغ عليهم، فمنهم من انتقل إلى المبالغة بالتعبير عن رغبته وكأنه ينتقم من ماضي رغبته المكبوت، ومن بقي منهم "محافظاً" رضي بالمساكنة أو السكن المختلط وهو الأمر الذي كان يمارس في دمشق بسرية شديدة للغاية، ولا يزال.

بل خلق الأمر نوعاً من تناقضات بات يمارسها أصحابها دون أن يشعروا بها حتى، فالصبية القادمة من دمشق تلبس الشورت القصير جداً أول وصولها، لتقضي أيامها البيروتية في رحابه، لتعود وتلبس بنطال الجينز قبل ركوبها سيارة العودة بساعات معدودة.

صدمة تركت آثارها على كثيرين ممن تعلّموا أن تثار رغبتهم بناءً على تفاصيل صغيرة هاربة (جزء من فخذ، نهد شارد، كعب عال بطريقة مبالغ فيها) لا يرون معنى للرغبة دونها، بل لا تظهر الرغبة دونها، الأمر الذي خلق مضاعفات سلبية لهم، إذ لم تتأقلم رغبتهم أو ذكوريتهم مع هذا العري القاتل للرغبة، حيث تغيب المفاتيح هنا، إذ كيف تُقرأ الرغبة في جسد مقروء سلفاً؟

المساهمون