طبائع الاستبداد بين التحرر الوطني والإرهاب

30 يوليو 2015

الكواكبي .. لو امتد به العمر وشهد الانقلابات العسكرية

+ الخط -
كتب عبدالرحمن الكواكبى كتابه حول الاستبداد، والذي كان قد توصل، بعد بحث استمر نحو ثلاثين عاماً، إلى أنه سبب تخلف، أو، على حد قوله، انحطاط المجتمعات العربية، واختار للكتاب عنوان "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وذلك في عام 1900م، واختار القاهرة لنشر كتابه بعد ذلك بعامين في 1902، حيث كانت تعيش فى مناخ تسوده حرية رأي وتفكير، وصحوة وطنية نسبية، في عهد ولاية الخديوي عباس حلمي الثاني (من 1892 إلى 1914) على الرغم من وجود الاحتلال البريطاني، ومندوبه السامى اللورد كرومر. واختار أن يهدي الكتاب إلى شباب الأمة! ثم غادر الكواكبي مصر، في جولاته المعتادة، للتعرف على أحوال البلاد والعباد، وعاد، بعد سنوات قليلة، إلى القاهرة، ليجد الكتاب قد نفد من الأسواق، فأعاد نشره بعد مراجعته، وأعاد صياغته لتدقيق المعاني، على ضوء ما شاهد من تطور الأحوال. 
عندما كتب الكواكبي طبائع الاستبداد، وضع يده، ببصيرة بعيدة المدى، على توصيف دقيق لمعنى الاستبداد السياسي، وعرف المُستبد بأنه "... الحاكم المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة، أو بالوراثة، وأصبح هو الجالس على عرش السلطة، والقائد للجيش، والحائز على السلطة الدينية، يتحكم فى شؤون الناس بإرادته، لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، والمستبد عدو للحق، وعدو للحرية. هذا عن الحاكم المستبد، أما الطرف الآخر الذي هو بتعبير الكواكبي الأمة أو الشعب، فإنه يقع فريسة للاستبداد نتيجة جهالة الأمة، وامتلاك المستبد للجنود المنظمة من خلال الجندية الجبرية، ويعتبر الكواكبى الجهالة والجندية الجبرية أكبر مصائب الأمم! حيث يتخذ المستبد لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة بالله، بالاستعانة بمسوخ الدين وبعض أهله. ويخلص الكواكبي في بحثه إلى أن العوام إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا! وأن الحل في وجود حاكم منتخب، مؤقت، مسؤول فعلاً أمام الأمة، وذلك عندما يثور العوام على المستبد، وهي ثورة يرى الكواكبي أنها لن تحدث إلا إذا شعر العوام بتضييق شديد فى أمور الرزق، والعرض، والدين، وموالاة شديدة من المستبد لعدو لشرف الأمة .."
وعلى الرغم من مرور نحو 115عاماً على ما كتبه الكواكبي، إلا أنه يبدو وكأنه يعيش بيننا اليوم، ويتحدث عن واقع الحال في عالمنا العربي المضطرب!

ولكن، ما لم يتعرض له الرجل فى كتابه، هو الذرائع التى يستند إليها المستبد في فرض هيمنته واستمرار استبداده، جيلاً بعد جيل من المستبدين. ويبدو أن الطغاة في زمن الكواكبي لم تكن تعوزهم الذرائع والمبررات، أو لم تكن تعنيهم، طالما توفرت لهم الوسائل والأدوات.
ولعل الكواكبي، لو امتد به العمر، إلى منتصف القرن العشرين، وشهد زمن الانقلابات الثورية، لأضاف إلى كتابه فصولاً جديدة تتناول ذرائع الاستبداد التى أصبحت كلمة السر، لتمكين المستبد ونظامه، بل ورفعه إلى مصاف الأبطال المنقذين، والزعماء الملهمين، والقادة الخالدين، وليسوا طغاة ومستبدين، تلك الذرائع في زمن الثورات الانقلابية كلمتان، هما التحرر الوطني. كل الطغاة الذين ظهروا، في النصف الثاني من القرن العشرين، واستمروا حتى مشارف القرن 21، رفعوا ذلك الشعار عندما تمكنوا من السلطة قسراً وقهراً، وحتى قبل أن يتمكن بعضهم من السلطة في مراحل الكفاح والنضال، وكان الأمر، في البداية، يبدو مقبولاً من العامة، وأحياناً مرحباً به، سواء كانت تلك المجموعات من شباب الضباط الذين انقلبوا على نظم حكم مترهلة وفاسدة، بشكل أو بآخر، ورفعوا شعارات التحرر الوطني من بقايا الاحتلال والنفوذ الأجنبي والفساد الداخلي. ولعل أبرز تلك النماذج كانت في سورية ومصر والعراق واليمن وليبيا. أو كانت جماعات وطنية من الذين شكلوا حركات سياسية، وبعضها ضم تنظيمات شبه عسكرية لمقاومة المحتل الأجنبي لبلادهم بكل السبل، وعندما نجحوا في ذلك صعدوا إلى السلطة، وتحولوا إلى أبطال قوميين، ثم ما لبثوا أن تحولوا إلى طغاة مستبدين، وأبرز النماذج كانت في تونس والجزائر واليمن الجنوبي، ودول عديدة في أفريقيا، مثل غانا والكونغو، وغيرها مما لا يتسع له المجال.
ولكن، ما يجمع بين كل تلك النماذج، ليس مسارات النضال ولا كيفية الوصول إلى السلطة فقط. ولكن، يجمع بينها، أيضاً، اتفاق المآلات، فكلها تحولت إلى نظم استبدادية، تحت شعار التحرر الوطني. لعل هذا ما كان سيكتبه الكواكبي في فصل إضافي من كتابه في طبعة التسعينيات من القرن العشرين، تحت عنوان الاستبداد والتحرر الوطني.
ماذا لو ذهب بنا الخيال إلى أبعد من ذلك، وتصورنا أن رجلنا، عبدالرحمن الكواكبي، قد امتد به العمر ليعبر إلى القرن 21! وقام بجولاته المعتادة فى البلدان العربية، وعاد ليضيف فصلاً جديداً لكتابه.
لا شك أن الرجل سيرى أن الدنيا تغيرت، فجولته كانت ستتم بالطائرات العملاقة، وفي درجة رجال الأعمال الفاخرة، وإقامته ستكون في الفنادق ذات الخمسة نجوم، وتحركاته بسيارات فارهة فاخرة. وعلى الرغم من أن ذلك كان سوف يدهشه كثيراً، فإن الأكثر إثارة بالنسبة له أنه كان سيجد الاستبداد على حاله، المستبد هو المستبد بجبروته، والعوام هم العوام بجهالتهم، مع اختلاف الذريعة لدى المستبدين، ملوكاً كانوا أو أمراء أو رؤساء، الجالسين على عروش السلطة، والقادة للجيوش، والحائزين السلطة الدينية، فسيجدهم جميعاً، وقد اتفقوا على أن الاستبداد حتمي، لمواجهة العدو الجديد الذي هو الإرهاب، بعد أن انتهى عصر التحرر الوطني.
ماذا لو أن الرجل قام بمراجعة كتابه، كما اعتاد، وأعده للنشر في طبعة جديدة، تتضمن ما طرأ على طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد في وطننا العربي، من متغيرات، عبر أكثر من قرن؟ وأضاف فصلاً جديداً بعنوان "ذرائع الاستبداد، واستمرار تسلط الطغاة على رقاب العباد، في زمن ارتقت فيه الأمم، وصعد البشر إلى القمر، واتفق الروم مع العجم".
لا أعتقد أن الكواكبي سيجد ناشراً في أي قُطر من الأقطار العربية يرحب بطبع الكتاب ونشره، وسيكون الرد الجاهز، إن الوطن في حالة حرب ضد الإرهاب، وإنه، في ظل تلك الظروف، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة على الإرهاب. وقد يترحم الرجل، الذي هو عبد الرحمن الكواكبي، على زمن الخديوى عباس حلمي الثاني، واللورد كرومر، فقد تمكن من نشر كتابه في ذلك الزمن، ونفدت كل طبعاته.

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.