طاحونة الشيء المعتاد في تونس

10 ابريل 2018
+ الخط -
تتواصل لعبة ليّ الذراع وحالة الصراع الذي لا يتوقف بين النقابات المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التونسية، وتتصاعد يوما بعد يوم من دون أفق واضح ينبئ بحلٍّ للنزاع المتجدد، فإضراب الأساتذة الجامعيين وأساتذة التعليم الثانوي يتواصل منذ شهور، وقد يفضي الى سنةٍ دراسيةٍ بيضاء في القطاعين الجامعي والثانوي، في مقابل إصرار الوزراء، ومن ورائهم الحكومة، على عدم إيجاد فرصة للحل، عبر مفاوضاتٍ أصبحت ملحّة. ومن المعلوم أن إضرابا حصل سنة 2015، خاضه معلمو المدارس الابتدائية، انتهت نتيجته إلى اعتماد الوزارة سياسة الارتقاء الآلي، من دون امتحانات أو نتائج، من أجل أن لا يحظى المعلمون بفرصة الضغط على الوزارة، وهو حلٌّ يبدو صعبا لقطاعي الثانوي والجامعة، نظرا لأهميتهما الأكاديمية، وضرورة إنجاز امتحاناتٍ وطنية، على شاكلة امتحانات البكالوريا التي تنتظرها آلاف العائلات التونسية كل سنة.
ومن جهة أخرى، شرع عمال الشحن في ميناء رادس التجاري، وهو الميناء الأهم والأكبر في تونس، في إضراب للمطالبة بالزيادة في الأجور، ولتُفتح صفحة جديدة من النزاع بين الطرفين بعد إضراب سنة 2014. وبهذا المنحى، تكون الإضرابات القطاعية قد بلغت مداها هذا العام، في ظل حكومة ضعيفة وعاجزة عن إدارة أزماتها، أو تقديم حلولٍ ممكنة تطفئ الحرائق الاجتماعية المتنقلة، في مواجهة اتحاد نقاباتٍ قوي، ويتمدد على حساب ضعف الدولة، ويتدخل في المجال السياسي علنا.
ويلاحظ المتابع للسلوك النقابي في تونس منذ الثورة أن اتحاد الشغل أصبح قوة فعلية منظمة، وقادرة على فرض شروطها، في ظل تخلي أحزابٍ كثيرة عن دورها في المعارضة السياسية. ويعود هذا الاستقواء النقابي إلى عاملين أساسيين، أولهما تقاطع السياسي بالنقابي في تونس، وهو ليس أمرا طارئا على تاريخ النشاط النقابي في تونس، غير أن ما جرى بعد الثورة هو
محاولة قوى سياسية إيجاد موطئ قدم داخل النقابات، لاستخدامها أداةً للضغط السياسي، وهو ما حصل بقوة زمن الترويكا بعد الثورة مباشرة، عندما تمت إطاحة حكومة الترويكا، ولعب اتحاد العمال دور الوسيط، ما أفضى إلى تشكيل حكومة انتقالية، أشرفت على تنظيم انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014، ونال الاتحاد على أثرها، رفقة منظمات أخرى، جائزة نوبل للسلام. ومن ناحية ثانية، أدى تغلغل الاتحاد داخل قطاع الوظيفة العمومية الضخم في تونس، باعتبار أن الدولة هي المؤجر الأول، إلى تكرار الإضرابات، مع استمرار تدنّي القدرة الشرائية للمواطن، وشعوره بالأزمة الاقتصادية الحادة، وهو الأمر الذي يفسر دورية الإضرابات مع كل قانون مالية جديد، ومع كل زيادة في الأسعار.
ولا يخفي اتحاد النقابات تطلعه إلى دور سياسي مؤثر، فالأمين العام للمنظمة النقابية الكبرى في تونس أعلن بوضوح مطالبته بتعديل وزاري واسع قبل الانتخابات المقبلة، ونعت الحكومة الحالية بالعجز والفشل. وعلى الرغم من أن تونس عرفت، منذ ثورتها سنة 2011، ثماني حكومات متتالية، وعرفت الحكومة الحالية ثلاثة تعديلات وزارية في أقل من ثلاث سنوات، فلا يمكن فهم طبيعة الحل الذي قد يمنحه أي تعديل وزاري مقبل، ما دامت الأدوات التنفيذية القادمة من أحزاب الحكم ستكون متشابهة ولا يمكنها أن تغير شيئا على أرض الواقع، اللهم إلا إذا كان اتحاد الشغل يرغب في اعتماد وزراء بعينهم، وهو لم يعلن عن أمرٍ كهذا، بل وسيكون إفقادا للعملية الديمقراطية من قيمتها، مع العلم أن الرئيس الباجي قائد السبسي دعا اتحاد الشغل إلى توقيع وثيقة قرطاج سنة 2016، وأشعره برغبته في مشاركة الاتحاد في الحكومة بشكل مباشر، وهو ما لم يحصل بشكل رسمي (هناك وزراء مقرّبون من اتحاد الشغل).
سيتواصل الصراع بين اتحاد الشغل والحكومات التونسية المتتالية، بالنظر إلى العوامل الاقتصادية، وبسبب استمرار التجاذبات السياسية وتصاعدها، قبل كل عملية انتخابية، وفي ظل غياب استقرار حكومي فعلي، فالحكومة الحالية على الرغم من أنها تعرف حضورا لوزراء من أحزاب مختلفة، إلا أنها في الواقع متروكة لحالها، بالنظر إلى أن شرط وجود شخصية قوية على رأسها، ويحظى بدعم الناخبين، غير متوفر، فرئيس الوزراء الحالي، يوسف الشاهد، جاء به الرئيس السبسي، ولا يعتبر شخصية مهمة أو مؤثرة لدى الرأي العام، فهو ليس زعيما لحزب سياسي فائز في الانتخابات، ولا يتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة تدعم خياراته، بالإضافة إلى كونه عاجزا عن القيام بإجراءات فعلية، يشعر معها المواطن بأنه أمام تحولات جذرية، فحتى حملته المفترضة ضد الفساد، والتي سخّر لها دعاية إعلامية واسعة ماتت في منتصف الطريق.
أفضى كل هذا الضعف إلى مزيد من تغوّل النقابات، وتحولها إلى عامل جذب يمكنه إيقاف الحركة الاقتصادية برمتها، الأمر الذي يفرض على كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الجلوس لحوار وطني، يعيد ترتيب الأولويات، ويضع أسس هدنة اجتماعية أصبحت ضرورة ملحة للبلاد، في ظل انتقالها الديمقراطي.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.