ضدّ الجوع

03 يوليو 2020
(أحداث "كريولانس" كما تخيلها الرسّام نيكولا بوسان)
+ الخط -

في مسرحية "كريولانس" لـ شكسبير صوتان: صوت الجياع الثائرين أو المتمرّدين، وصوت السلطة الحاكمة، وفيها رؤيتان للعالم وللحياة والطريقة التي ينبغي أن تُعاش بها هذه الحياة.

اللافت أن وقائع المسرحية تحدث في القرن الخامس قبل الميلاد. ولكم أن تتصوّروا تاريخ الجوع استناداً إلى هذا النص، وفي العادة فإن شكسبير يختار الوقائع التي يمسرحها من التاريخ، وفي الغالب سوف تكون وقائع تاريخية حقيقية، وقد اختار وقائع مسرحيته من كتاب للمؤرخ الروماني بلوتارك، أي أنَّ ثورة الجياع في المسرحية ليست مجرّد تخييل مسرحي مفترَض فقط، بل هي واقعة تاريخية حدثت في روما في ذلك الزمن.

غير أن شكسبير، وكما اعتدنا عليه في مسرحه، يمنح الواقعة تاريخاً صالحاً للخلود؛ فالمشهد الأوّل، بل الجُمَل الأولى في المسرحية تعبّر عن مضمونها، حين تصرخ إحدى الشخصيات: مواطن أوّل: كلّكم مصمّمون على أنكم تؤثرون الموت على التضور جوعاً؟ فيجيبه مواطنون: مصمّمون، مصمّمون.

كانت المجاعة تهدّد روما، وكان الناس يطلبون تخفيضاً في أسعار القمح، بينما كانت السلطة ترفض الاستجابة للمطالب الشعبية. يهتف الجمهور قائلاً: (هذا هو الصوت الأول الذي تفتتح به المسرحية، وهي افتتاحية لها دلالاتها الواضحة): "الهزال الذي ابتلينا به، مشهد بؤسنا هذا، ليس إلا كشفاً بتفاصيل وفرهم، معاناتنا كسبٌ لهم".

وحين يتدخّل أحد أعضاء مجلس الشيوخ، واسمه "مننيوس" لتهدئة المتمرّدين، يعترف: (وهذا هو الصوت الثاني) بأن ثمّة مجاعة بالفعل، وأن الفقراء يتضوّرون جوعاً، غير أنّ الأغنياء لا يتحمّلون وزر تلك المجاعة، بل الآلهة، فالقحط من صنع الآلهة لا الأشراف، ورفع صرخات المعاناة في وجه الدولة الرومانية كمن يرفع العصا بوجه السماء.

يشير يان كوت في كتابه الجميل "شكسبير معاصرنا" إلى أنّ اختلاف لغة الفريقين، وهي إشارة معبّرة من شكسبير الذي لا يكتفي بالتناقض بين مطالب الشعب وأيديولوجيا الحكّام، بل يُظهر ذلك في طبيعة الكلام المختلف بين الفريقين، إذ ليس من المعقول أن يتحدّث الجائع باللغة ذاتها التي يتحدّث بها من تسبّب في جوعه. وهكذا فإن عضو مجلس الشيوخ يتحدّث شعراً، بينما يتحدّث الناس نثراً.

اللافت أن يكون بعض المعارضين السوريّين قد وقفوا ضد حركة الناس التي عبّروا فيها عن احتجاجهم ضدّ احتمال الجوع، أو سخروا منها. لا يقرأ "المعارض" التاريخ، ولا يقرأ الأدب، ولا يريد أن يرى من الماضي أو من الحاضر، في حركة الناس التي تصنع معنى لمعارضته، غير شعاره؛ فالتحرُّك ضد الجوع، أو ضد مخاطر التجويع والفقر يذهب عميقاً في تاريخ البشر، دون أن تختصّ به منطقة أو دولة أو أمّة أو زمان أو مكان.

ويمكن ليان كوت أن يلخّص لنا المسألة التي تواجه من يقمع ثورات الجياع، أو من يسخر منها ويحط من شأنها: إنه اختلاف في الرأي حول ماهية تنظيم العالم. وهو صراع حول فكرة الإنسان عن التاريخ وقيمه الخلقية.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون