ضدّ أمازون

12 يناير 2015
+ الخط -
أصبحت المكتبات الصغيرة في تولوز كما في باريس ومدن فرنسية أخرى تغلق أبوابها وتلصق عبارة "معروض للبيع". وباتت الجدران العتيقة والمحاطة بالدفء الإنساني وإرشادات العاملين الذين يتناقلون شغفهم وولعهم بما تحتويه الكتب من كنوز من جيل لآخر، مجرد جدران فرغت من أرواحها تحتضر وتنتظر المتردّد المخلص والدائم ليزورها ويبعث فيها الدفء فتنتعش. لكن ثمّة مكتبات صغيرة ومستقلّة كمكتبة "تيرا نوفا"، أي الأرض الصغيرة، في وسط تولوز، التي رغم عوائدها المحدودة وعدد العاملين فيها الذي لا يتعدى الثلاثة، تثير التعجب في "صراعها" للبقاء في عالم تميّزه السرعة ورغبة الزبون المتسرع في نيل كتابه فورًا، متوجهًا صوب الإنترنت ليضغط بإصبعه على زر الماوس أمام العروض اللامتناهية وإغراء الشركة العنكبوتية الكبيرة "أمازون" بتوفير الكتاب له في غضون الساعة وبـ "سنتيم" واحد فقط من سعر الشحن! يقول صاحب المكتبة فابريس دومينجو إن فكرة "تيرا نوفا" ولدت من فضوله وعشقه لمعرفة الآخر وخاصّة دول البحر الأبيض المتوسط والتعريف بحضاراتها وثقافاتها. وبدأ أولًا عن طريق الموسيقى فقدّم لروّاد المكتبة أقراصاً مرنة وأشرطة الموسيقى التقليدية والتراثية. ثمّ قرّر التوسّع لتشمل رفوف مكتبته الأدب وعلوم الاجتماع والفلسفة والفنون وحتى المجلات المصورة، وهي كلّها تدور في فلك ثقافة دول البحر المتوسط، ومن ثمّ توسّعت ثانيةً لتشمل أيضًا الكتب الكلاسيكية من أدبٍ فرنسي وعالمي وفنون وفلسفة. وفي بوردو توجد أكبر مكتبة مستقلّة في فرنسا ؛ مكتبة "مولا" التي تأسّست عام 1896، وورثها دينيس مولا وقرّر الحفاظ عليها وتطويرها، فاعتمد سياسة خاصّة للعاملين فيها، إذ هم من حملة الشهادات الجامعية العالية المتخصصة في المكتبات والكتب، الأمر الذي وفر للمكتبة دخلًا سنويًا كبيرًا. 
تكشف المكتبتان وجهًا مميّزًا لتاريخ فرنسا العريق في الاهتمام بالكتب والثقافة عامّة. ووفقًا لمولا فإن فرنسا تعدّ "منافسًا شرسًا لثقافة الاستهلاك الأميركية"، إذ إن "عدد مراكز بيع الكتب في فرنسا يعادل مراكز البيع في الولايات المتحدة بأكملها". الأمر الذي يشير إلى أن الاهتمام بالكتب وشغف القراءة لا يأتي من فراغ بل نتيجة لتاريخ الثقافة العريق. أمّا في ما يخصّ الجديد أي عروض أمازون التجارية، فقال: "تستطيع المكتبات التأقلم مع عرض أمازون من خلال بيعها هي الأخرى، أجهزة لقراءة الكتب الإلكترونية، فالمهمّ هو الفكرة ونقلها، وليس كيفية وصولها إلى القارئ. سوق الكتب الإلكترونية في بريطانيا مثلًا يصل إلى 12 في المائة مقارنة بواحد أو اثنين في المائة في فرنسا. أي أن القارئ الفرنسي يفضّل قراءة الكتب الورقية على الإلكترونية". 
لكن تدخّل الحكومة الفرنسية على ما يبدو، أدّى دورًا مؤثّرًا، إذ لم تتوانَ، ممثّلةً بوزارة الثقافة، من مواجهة أمازون وإقرار قوانين تحمي الكتب من التحوّل إلى مجرد منتج يباع على موقع أمازون. ويعود الفضل في احترام الكتاب كمنتج، إلى قانون وزير الثقافة السابق جاك لانغ الصادر عام 1981. ويقرّ أن تعرض دور النشر سعرًا مطابقًا تمامًا على الكتاب وفي كافّة مراكز البيع، ويحقّ لها تخفيض خمسة في المائة من سعره فقط. وهذا القانون هو الذي يحمي المكتبات المستقلّة من تهديد المنافسة التجارية. 
وفي وجه الخطر الأمازوني التجاري وتوسعه، تمّ التصويت على قانون "ضدّ أمازون"، الذي يمنع شحن "الكتب" مجانًا عند إيصاله إلى المشتري. لكن أمازون استطاع التحايل على القانون، ومنافسة المكتبات مجدّداً من طريق عرضه للشحن مقابل "سنتيم" واحد فقط وفي غضون ساعة. بيد أنّ ما يؤرّق وزارة الثقافة الفرنسية حاليًا، هو عرض أمازون لاشتراك شهري بقيمة "عشرة يورو"، تتيح للقارئ الفرنسي التجوّل بين 700 ألف كتاب "افتراضي" مناسب للحواسيب اللوحية أيّا كانت: "سمارت فونز" أو "كينديل" أو "أجهزة آبل". وقد أثار هذا العرض ضجّةً كبيرة في فرنسا أخيراً. 
ورغم العروض المتوالية من الشركات الأميركية الكبيرة كـ "أمازون" و"إي بوك"، إلا أن المثقّفين في فرنسا، وخاصّة دور النشر الكبيرة مثل هاشيت وآكت سود مثلًا، لم توقع على العقد مع أمازون، من أجل حماية المكتبات المستقلّة ونظرتهم إلى "قيمة" الكتاب كمنتج ثقافي. وفي الولايات المتحدة أيضا، قام العديد من الكتّاب والمثقّفين بتوقيع عريضة ضدّ عرض أمازون هذا. 
وفي مواجهة هذا العرض يقول مولا: "إن مصير المكتبات يلاقي طريقه عبر روّادها وعبر "صرامتها" في انتقاء الكتب والمراجع. فالجهد لا بدّ أن يركّز على هؤلاء الروّاد، بحيث يكرّس العاملون في المكتبات وقتهم لإرشادهم ونصحهم بدلًا من إضاعة وقتهم مقابل مبلغ مادي زهيد في غابة أمازون الواسعة عبر شاشة إلكترونية". 
ويبدو أن مبادرة الحكومة تلقى أثرًا طيبًا، إذ يتمّ ذلك بأشكال مختلفة منها؛ تقديم المساعدات المالية وتخصيص ميزانية تصل إلى تسعة ملايين يورو لمساعدة المكتبات المستقلّة. ويرى مولا أنه رغم أن المبلغ المخصّص قليل نسبيًا، إلا أنه ساعد كاتبًا مثل كلود سيمون في الحصول على جائزة نوبل للآداب، فلو أُغلقت دار نشر "إيديسيون دو مينوي" أبوابها بسبب الضيق المادي ولم تتابع نشر كتبه طوال عشرين عامًا، لما حاز كلود سيمون عليها. أمّا صاحب مكتبة "تيرا نوفوا"، فابريس، فقد حصل على منحة (3000 يورو) من وزارة الثقافة الفرنسية بسبب جهوده وإصراره على تقديم الـ "النوعية" لا "الكمية". 
ويظنّ مولا وفابريس إن سرّ مقاومة المكتبات المستقلّة أمام التطورات التكنولوجية الأميركية المتعلّقة بالكتب الإلكترونية والعروض المغرية لشركة "أمازون"، هو الاهتمام الكبير بروّاد المكتبات من طريق تنظيم فعاليّات تدور حول الكتب الورقية مثل حفلات التوقيع والمهرجانات.


المساهمون