صندوق في تونس يجعل الأحلام كوابيساً

28 ديسمبر 2014

تونسيات يطالعن أخبار الحملات الانتخابية (24نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -
هل يمكن أن نسمي ما حدث في تونس، في السنتين الأخيرتين، انقلاباً ناعماً؟ قد يكون إقرار ذلك من باب التجني، خصوصاً إذا استحضرنا أن انتخابات حرة ونزيهة وشفافة جرت ضمن المعايير الدولية المطلوبة، فالذهاب في ذلك الاتجاه فيه إعفاء مَن حكموا، السنتين الفارطتين، من المسؤولية، خصوصاً في ظل النفور المتصاعد من نظرية المؤامرة. سنعمد إلى عدم استهجان تلك التسمية مؤقتاً. ولكن، علينا ألا نستبعد أن التاريخ سيكشف أن ما حدث لم يكن بعيداً عن انقلاب ناعم فعلاً.

حتى ولو سلّمنا بأخطاء "الترويكا"، فهل تبيح هذه الأخيرة لشعب أن ينقم بمثل ما لا ينقم به على بن علي؟ كيف صبر هذا الشعب على بن علي، أكثر من عقدين، وضاق ذرعاً، في أقل من سنتين، بالذين يفترض أن الثورة أتت بهم. ويبرر بعضهم هذا المزاج المتقلّب للناس بأن أخطاء بن علي لم يكن يطلّع عليها إلا جزء ضئيل من الناس، في حين أن أخطاء الترويكا كانت موضوعاً للاستثمار السياسي المعمّم.

يسألني أصدقاء عرب وأجانب عديدون ما الذي حدث؟ وكيف عاد رجال النظام القديم حكاماً يريدهم الشعب، ألم تتغنوا الشعب يريد؟ ها هو شعبكم نفسه يريد حكاماً غيركم. أشعر أن بعضهم وكأنه، بهذا التذكير، يعيّرنا. غير أن ما حدث، فعلاً، يستفز الذهن قبل المشاعر، كيف حدث ما حدث أمام أعيننا، وفي صناديق نلاحظها ونراقبها؟

عاد النظام القديم، ولا أحد يستطيع، في تقديرنا، إقناع نفسه قبل إقناعنا أن "نداء تونس"، بقطع النظر عن مدى ارتباطه بالتجمع الدستوري الديمقراطي، حزب بن علي المنحل، استطاع، بجهده الخاص، أن يعود إلى السلطة وأن يربح الانتخابات. كيف استطاع حزب لم يعقد مؤتمره التأسيسي الأول، ولم ينتخب بعد قيادته مكتفياً بهيئة تأسيسية، فاقداً للهياكل المحلية والجهوية، أن يحصد ما حصد في البرلمان، ويصعد رئيسه رئيساً للجمهورية؟ يذهب بعضهم في تفسير ذلك بأن شخصية الباجي قائد السبسي كانت العامل المحدد، مستندين إلى كلام غير دقيق من قبيل "الوهرة"، أي الهيبة والضخامة والوجاهة، وما إلى ذلك من مفردات يروجها إعلام منحاز فُطم على عشق الجلاد، حتى إذا أهدت الثورة له حريته، حنّ إلى العبودية ثانية.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن للباجي "طعمه الخاص"، وله من المناصرين الكثر من الشرائح العمرية التي فاق عمرها الخمسين، ممّن تربوا على رأي الزعيم الأوحد. يثير السبسي فينا رغبة الاستسلام إلى أبٍ يريحنا من مشقّة تدبّر أمرنا بأنفسنا، كحالة الشاب الذي يرفض مغادرة بيت أبيه عند الزواج. أتاحت لنا الثورة فرصة نادرة لتدبّر شأننا بأنفسنا خارج الوصاية. ولكن، سرعان ما هزّنا حنين جارف إلى أبٍ يعفينا من كل تلك المشاق.

فاز "نداء تونس" بالانتخابات التشريعية والرئاسية، لأنه أعاد تشغيل ماكينة (الآلة الضخمة) "التجمع الدستوري الديمقراطي" التي ظلت خلاياه نائمة، حتى وقد حل هذا الحزب قضائياً. لم يكن "التجمع" حزباً بالمعنى الحديث الدقيق للأحزاب، إنما كان هيكلاً مزيجاً من إدارة عميقة وأمن موازٍ وشركات مالية وميليشيات... إلخ. هذا الخليط يعود، الآن، بشكل أكثر شراسة متسلّحاً بثقافة الثأر.

لا أحد ينكر إخفاقات الحكم، ولكن، ربما عوّلت "الترويكا" على تجنب صرامة المحاسبة وآثرت المصالحة الوطنية أكثر من اللازم، حتى كانت ساذجة تمارس الحكم بكثير من الهواية، غير أن الحصار الاقتصادي الذي ضربه المال الفاسد والمحيط الإقليمي على حكومة الثورة وتحالف الإعلام الفاسد مع رجال أعمال، أثروا من خلال تسمين النظام السابق، وهم الذين هرّبوا المال وخيروا الاستثمار في الخارج، حدد مثل هذا المصير. هل نسينا كيف انتفض المجتمع المدني متعاطفاً مع رجال القضاء الفاسدين، وكيف جعلوا من إعلامي فاسد نهب مؤسسة التلفزة التونسية شهيد إعلام مؤجل؟

تم تجويع الناس وإرعابهم، حتى باتوا مستعدين لانتخاب القادرين على أن يوفروا لهم خبزاً وأمناً. الإرهاب، سواء كان صناعة، أو تزامناً غريباً مع صعود الإسلاميين، كان ولا شك نقطة الفشل الذريع الذي دفع الترويكا والإسلاميون، بشكل خاص، ثمنه باهظاً.

أفرزت صناديق الاقتراع في تونس، في أول انتخابات رئاسية حرة وديمقراطية ونزيهة، رجلاً طاعنا في السن، لم تكن له علاقة بالنضال من أجل الديمقراطية، وأقصت، في قسوة غريبة، نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وكلثوم كنو والمنصف المرزوقي. الصندوق أعمى ولا يفرّق بين مرشح وآخر.

هل ارتكبت "الترويكا" شرور الدنيا كلها، حتى يرتد الناس عمّا ثاروا من أجله، ويعيدوا النظام القديم؟

لا أعتقد أن الأمر كان مرتبطاً باستراتيجيات انتخابية، فالرغبة في إسقاط الحكومة صوت ارتفع، بعد أسابيع فقط على تولي الترويكا الحكم، إلى حد أن رئيس الحكومة آنذاك، حمادي الجبالي، عبّر، أكثر من مرة، أنه سيحور حكومته، وظل يبحث عن توسيع دائرة الحكم واضطر للتنازل لشركاء محتملين، من دون أن يحقق ذلك. حتى حدث المكروه وتم اغتيال الشهيد شكري بلعيد. استأسد النظام القديم، حين فتحت له المعارضة اليسارية الأبواب وتحالفت معه، تحت خيمة الاتحاد من أجل تونس.

يجري، حالياً، ما هو أخطر من عودة النظام القديم إلى الحكم، إنه ترتيب الذاكرة وبناء رواية جديدة للثورة، تجعلها كابوساً وعملاً نزقاً علينا تصحيحه والتبرؤ منه. لا نريد أن نؤبد الثورة، ولكن، لا نريد، أيضاً، أن نسقط في أحضان النظام القديم. كنا سنقبل أن نطوي الثورة، لو ذهبنا إلى ترسيخ الانتقال الديمقراطي. لكن، أن نرتد عن الديمقراطية فذلك محظور، قد يبدأ، للأسف، إنجازه قريباً.

كل مساوئ الديمقراطية (بما فيها ما نشهده حالياً من عودة النظام القديم)، قابلة للإصلاح، بمزيد من ترسيخها والإقبال عليها. هكذا قال ذات يوم ألفريد أ. سميث.

ستكون السنوات القليلة المقبلة محددة في نجاح الانتقال الديمقراطي أو فشله. المعبر الوحيد: ثقافة الديمقراطية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.