صناعة الحياة

09 مارس 2015
+ الخط -
سأعود من جديد إلى الحكاية، حيث كلّما ضاقت بي الحياة، واستبدّ بي ما يشبه اليأس وانسداد الأفق، أنسحب إلى الطفولة، وأستنجد بأمي، مورثتي الأولى للسرد. تتحدّث أمي هذه المرة، عن الصبي المذبوح، تروي الأحداث بإيمان الأمهات المنهمّات بسرد مقنع، متبادلات أدوار الإيمان بالحكاية بين الساردات والمستمعين، بين الأمهات أو الجدّات، والأبناء.
تتحدّث الحكاية هذه المرة عن الطائر الأخضر. حين اشتهت زوجة الأب الشريرة، تناول اللحم، وفق الصورة النمطية لزوجات الأب، في القصّ الشفوي خاصّة، قامت بذبح ابن زوجها وطهيه وإطعام لحمه لأبيه. لكن أخته الحنون، رفضت تناول الطعام وزرعت عظام أخيها في الحديقة، لتنمو العظام، وتدب فيها الحياة، وتصبح ذلك الطائر الأخضر، الذي يقف في حديقة بيته، يغرّد في كل يوم:
"أنا الطير الأخضر
بمشي وبتمختر
خالتي دبحتني، أبوي أكلني، وأختي الحنونة، رمت عضامي عالمرج الأخضر".
وما إن يخرج الأب ليُصغي إلى الأغنية المُفجعة للطائر، فيطالبه بالتكرار ليتأكد مما سمعه:
"عيدها عيدها يا طير!"
وقبل أن أنسى نفسي مع الطائر الأخضر الذي يروي مظلوميته، سأتوقّف عند عظامه التي نمت، وتحوّلت إلى كائن. هذه الصورة التي خففّت عني رعب تكسير تماثيل متحف نينوى، من قبل من يُدعون بـ "داعش". هؤلاء المقابلون لزوجات الأب الشريرات في الرواية الشعبية، يقتلون ويذبحون ويكسرون التماثيل ويهوون بفؤوس التخلّف والاستبداد على تاريخ طويل من حضارة المنطقة، ويحطّمون الأمل، عبر بثّ الرعب المتفاقم يوماً تلو الآخر، وكأنهم تحوّلوا إلى أسطورة في الشرّ، تحرق البشر أحياء، وتقطع الأعناق، ويخرج أبناء العصابة المماثلة لما يحدث في السينما أو المخيلة الفانتازية في القصّ الشعبي أو حتى الفنّ المعتمد على الكثير من الدقّة والصناعة الفنية، لتخفق قلوب العالم عموماً، والعرب خصوصاً بما يشبه الرعب النهائي من خرافة مخيفة لا تنسجم مفرداتها مع العيش الحداثي والقيم العالمية التي توصّلت إليها البشرية، خاصّة بعد صراعات تاريخية دامية، اعتقدنا أننا حققنا بعدها سلاماً إنسانياً وأخلاقياً، مع انتشار منظومات عالمية وأفكار وقيم حقوقية تدافع عن السلام وحقّ الإنسان في العيش والكرامة، وذلك على عدّة أصعدة، من مؤسسات حقوقية مدنية أو سياسية أو حتى مؤسسات ثقافية تتبنّى السلام والمحبة والعدالة، ربما أكبر مثال عليها أكاديمية نوبل التي انبثقت أيضًا من فكرة الحرب، ودحضها. فهل يمكننا ضمن هذا الحدث الخرافي، الشبيه بالحكايات الساحرة، عن الخوف والذبح، العثور على نموذج الأخت الحنون التي تزرع عظام القتيل، فتنمو ويعود طائر الفينيق إلى الحياة؟
في فيلم "فهرنهايت 451"، للمخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو، والمأخوذ عن رواية للأميركي راي برادبري، نشاهد مشهد حرق الكتب، حيث تُعتبر المعرفة خطراً ينبغي حظره في المجتمع الاستبدادي. بطل الرواية أو الفيلم، "غي مونتاغ" الذي يعمل كرجل إطفاء يقوم بحرق الكتب. لكنه يقع في غرام القراءة، حين يلتقي بجارته المثقفة "كلاديس" وتُقنعه بالقراءة. كلاديس هنا أدّت دور الأخت في حكاية الطائر الأخضر، لتنقذ الكتاب، الأخ المذبوح.
حكاية وأد الثقافة والمعرفة، حصلت مراراً، نذكر جميعاً ما فعله هولاكو حين أمر برمي الكتب في نهر دجلة الذي تحوّل إلى اللون الكحلي، لون الحبر.
هكذا تنوس المعرفة، بين مغول ودواعش وزوجات أب شريرات، على ذمّة الحكاية الشعبية التي أسرت زوجة الأب، والتي سنمرّر صورتها النمطية طواعيةً هنا، فقط للإبقاء على الفكرة الأصلية، أي الشرّ المعرفي، الشرّ المدمّر للمعرفة.
هؤلاء النسوة: أخت الطائر الأخضر، كلاديس، بل و حواء، المحرّضة على المعرفة، الغاوية البدئية للخروج من الجنّة، واختبار الحياة، وغيرهنّ، حاملات مشعل الحياة والتصدّي للذبح، هنّ رموز الفعل الثقافي العربي المطلوب اليوم.
هذه هي الوصفة الوحيدة التي يمكن للمثقّف اتباعها، حيال أساطير التخويف والإرهاب والقمع، ليس أمامنا سوى زراعة المعرفة والنقد وإحياء المساءلة والتشكيك، والكتابة.
المعرفة هي الأصل، وهي الوحيدة الكفيلة بحفظ ماء الحياة، في أرواح التماثيل المحطمة، والحروف المذابة في النهر، والدماء المهدورة، والكرامة البشرية المُهانة.. الثقافة والمعرفة والفنون، أدوات إتمام صناعة الحياة، وحفظها.
المساهمون