لم ينزح السوريون فقط إلى تركيا، بل نزحت معهم حرفهم وتقاليدهم. فلم تنته ملامح حياة السوريين بكل تفاصيلها مع هروبهم بعيداً عن الوطن الذي حوّله نظام بشار الأسد إلى جحيم يلتهم الأخضر واليابس، فأخذوا معهم واحدة من أجمل ما تميزت بها بلادهم، وهي صناعة
الحلويات عندما حط بهم الرحال في تركيا.
وتميزت العاصمة دمشق دوماً بمنشآت صناعة الحلويات والمعجنات، حتى جاءت طائرات الأسد، فهدمت الحجارة والآلات، والكثير من هذه المتاجر التي كانت تنتشر في الأحياء العريقة بالمدينة، فزاد ذلك من تصميم عبدالوهاب عاشور، على وراثة مهنة أبيه ونقل مذاقها الدمشقي إلى الأتراك، رغم مرارة حياته في الغربة.
وقال عاشور، صاحب واحد من أشهر متاجر الحلويات السورية في اسطنبول حالياً، " هربت من دمشق برفقة أهلي وأسرتي، بعد أن تهدمت منازلنا ومحالنا، فذهبنا إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ثم استقر بنا الحال في تركيا، واخترت اسطنبول لمعرفتي أنها المدينة الأكثر منافسة والتي لا تقبل بأنصاف الحلول، رغم أن المعيشة في المدن القريبة للحدود السورية أقل كلفة وأكثر يسراً وبساطة".
وأضاف: واجهت العديد من المصاعب المعيشية في البداية، ومنها ارتفاع إيجارات المنازل، واضطررت إلى دفع معظم ما أملك في استئجار شقة وتأسيسها، ومع كل هذه المصاعب لم أنس حلمي بإقامة متجر لصناعة الحلويات، ولو على قارعة الطريق.
ويستذكر عاشور البداية بمتجر استأجره دونما سمسار (وسيط)، قائلاً " لو أني دفعت للسمسار لما استطعت استكمال تكلفة تجهيزات المتجر، بالإضافة إلى مساعدة الأتراك الذين تعاملوا معي وكأنهم أهلي، كما منحت حكومة أردوغان وقتذاك للسوريين تسهيلات كبيرة".
وكانت بداية أشبه بمغامرة، في شارع مكتظ تنتشر فيه متاجر للحلويات والمعجنات، ولا أملك سوى 2000 دولار، فاشتريت مستلزمات الإنتاج الضرورية "موقد غاز وزيتا وطحينا وسكرا واحتياجات أخرى"، وبدأت أنا وابني وابن أخي، نصنع الأنواع الأقل تكلفة والتي لا يعرفها الأتراك "مشبك، وقطايف"، وكان ذلك نهاية عام 2012، وبدأ الشتاء يزحف والإقبال على
الحلويات يزيد.
ولعل انخفاض الأسعار التي قدمها متجري وطريقة صناعة الحلويات أمام الزبائن، ساهما في زيادة مبيعاتي في البداية، قبل أن يتذوق المستهلك التركي الطعم الخاص.
وأشار عاشور إلى احتفاظه بوصية أبيه "الزبون سلطان ولسانه الحكم"، فبدأ يتوسع في الإنتاج، فأدخل المعجنات الشامية لرخص تكاليفها، واعتمد دائماً على كسر السعر لمنتجاته الجديدة على السوق، ومن عائدات المحل بدأ التوسع، وقال "رفضت الشراكة رغم العروض المغرية بعد كثرة المبيعات، واشتريت آلات مستعملة لصناعة الحلويات، واستعنت بمزيد من العمال السوريين".
وأضاف عاشور "وظفت نحو عشرين سورياً، بعضهم فتيات يجدن اللغة التركية، ووضعت قواعد صارمة للعمل، وأعطيتهم أسرار المهنة التي توارثتها عن أبي وجدي في دمشق، ومن كثرة حبهم للمهنة أصبح هدفهم الأكبر نقل المهنة والمذاق والجودة إلى الأتراك بأعلى جودة، وتوريثها للأجيال المقبلة".
وأكد صاحب متجر الحلويات عدم استغلاله حاجة العمال، مشيراً إلى أن حجم المبيعات وصل إلى قرابة 2000 دولار يومياً، وهو ما يوازي حجم رأسمال المشروع عندما بدأ قبل أقل من عامين، أما أجور العمال فتتراوح بين 800 ليرة تركية (380 دولارا) و1900 ليرة (785 دولارا).
وأشار عاشور إلى أن هناك عدة تحديات تواجه صناعة الحلويات في تركيا، منها ارتفاع أسعار المواد الأولية والضرائب، فكلفة ترخيص المنشأة 5 آلاف دولار، وسعر كيلو الطحين 1.5 ليرة تركية، وسعر السكر 3.5 ليرات، والسمن الحيواني 25 ليرة، فضلاً عن ارتفاع أسعار
الغاز والكهرباء، ما يزيد تكاليف الإنتاج ويجعل هامش كسر الأسعار مجازفة.
وأوضح عاشور أنه تغلب على هذه التحديات عبر إدخال قسم لتصنيع المعجنات الشامية التي لاقت قبولاً ورواجاً في السوق، كما اتجه إلى البيع بالجملة لمحال سورية وتركية، لمساعدته على تصريف منتجاته.
وأضاف "بعد هذا النجاح، فإن احتمال فتح فروع خارج اسطنبول وارد وضرورة".
ورغم أزمات النازحين السوريين المتصاعدة، لم يمنع "مستثمر الحلويات" من التأكيد على سعيه إلى العودة لمعشوقته دمشق متى سنحت الظروف، إلا أنه أعلن عن عدم تخليه عن متجره في اسطنبول، مشدّداً على أنه سيتنقل بين البلدين إذا تحقق حلمه قريباً بالعودة إلى أرض الوطن.