صناعة الأفلام في مصر
كان لصناعة الأفلام في مصر رواج اقتصادي في الثلاثينيات والأربعينيات، إلى درجة جعلت دخلها يعدّ المنافس الوحيد للقطن في تلك الفترة. هل بسبب ذلك، ركزّ عبد الفتاح السيسي بعمق واهتمام على الترحيب والاهتمام بأهل هذه الصناعة، بشكل لافت وشاعري وحميم، كما رأيناه يقوم حانياً ورومانتيكياً ومرحباً بسيدة الشاشة، فاتن حمامة، قبل رحيلها بشهور، أم كانت للرجل ميول تمثيلية مكبوتة، أعاقتها البدلة العسكرية والنظارة "الريبان" والرتبة طوال فترة عمله في المخابرات ووزيرا للدفاع، ثم بدأت تتبلور تلك القدرات وتفوح، وخصوصاً بعدما رأى نفسه في مرايا قصر الاتحادية، بعد إطاحة محمد مرسي وتنصيبه رئيساً؟
كانت لأنور السادات الميول نفسها، وكان لحسني مبارك دور صغير يتيم، علّ منتج ذلك الفيلم تكبّد من بعده خسائر كثيرة، فما علاقة السيسي بالكاميرا، وخصوصاً حينما تنعس عيناه كالعندليب أمام الكاميرا، ويخرّ منهما الحنان؟
بدأ السيسي مرحلة أفلامه الهندية، على "مرسي"، للأسف بالصلاة وورد القرآن والزبيبة والتقرب إلى الله بالنوافل والصيام، إلى حد أنه كاد أن يكون مريداً، ثم تغير الفيلم تماماً من رومانتيكي هندي استدراجي غنائي إلى دموي صِرف أمام الحرس الجمهوري.
خرج المصريون من العرض، فجر يوم مذبحة الحرس الجمهوري، والدماء تملأ المسجد، وظلت الصور محبوسة في كاميرا المصور الشهيد الذي قتلوه، وهو يأخذ آخر لقطاته. ونسي المصريون الطيبون كل دماء العرض الذي تم فجراً، لأن المخرج كان ما زال غامضاً يدير المشهد من بعيد، من وراء ساتر، ولم يكن بعد قد خرج على الجمهور بكلمته الأثيرة والمخادعة، سائلا الجميع بخبث يحسد عليه: "إنتو مش عارفين إن إنتو نور عنينا ولا إيه؟".
ظل السيسي من بعيد يقدم رِجلاً، ويؤخر رجلاً، محافظاً على دور البطل الذي أنقذ الوطن من براثن الشر. وفي الوقت نفسه، يتعفف عن أي حكم، أو رئاسة، لأن مصر عنده هي الأهم والأكبر والأعظم فوق أي رئاسة، وصدّق المصريون الطيبون خيالهم في تعفف بطلهم أكثر من سنة، حفاظا على تخيلاتهم، وعدم جرح مشاعرهم في منقذهم الطهور، إلى أن تحرك الرجل، وخلع البدلة ورمى النظّارة "الريبان" السوداء. هنا بدأت شهوة الحكم واضحة في عيون الرجل، وخصوصاً بعد رؤية عيون العندليب.
توالت المذابح كل آن، والمخرج خلف الكاميرا يعد دولارات الخليج ملياراً بعد مليار، والمُلك يزداد اتساعا، والمحاكم من خلفه تحكم على المعارضين بآلاف السنوات.. هنا، انتقلت الكاميرا إلى شاطئ البحر في ليبيا، وقد ازدادت التقنية تألقاً، والدماء من خلفها تغطي موج البحر والرؤوس معدة للقطاف. بعدها بساعات، بدأ المخرج يحرك طائراته إلى الغرب، فقد اكتمل المشهد، وزادت الدراما اشتعالاً وتوهجاً ونهماً. إنها الحرب بأي ثمن، وبأي دم، وعلى أي أرض، وبأي كاميرا، والمخرج لا يرضى بالدور المحلي، بل يريد أن يصل إلى هوليود في غمضة عين، إلى درجة أنه لم يعد يهتم بجامعة الدول العربية، بل يطلبها كاملة: (تفويضاً من الأمم المتحدة)، والكنيسة (الأم) معه، وأهل الفن معه، وحتى موج البحر معه، والأزهر يعتبره وليّا، وأحد مشايخ الأزهر قال: (لو فقأ العيون لما تكلمنا).
ولا مجلس شعب ولا يحزنون، هل هذه هي الرسالة. لقد وصلت إلينا الرسالة، يا عندليب، وانتهى الأمر، يكفي أن يطل علينا الرجل بعيون العندليب على الشاشة، كل مساء، بخمسة قوانين أو ستة، حسب ما يتعطف البطل، ويجود أو تجود به قريحة الترزية من وراء جنزير الدبابة.