صلوات انتخابيّة في تونس

24 نوفمبر 2014

تونسيون مشاركون في إحدى الحملات الانتخابية الرئاسية (19نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

"إنّ مجتمعاً بلا ديانةٍ كسفينةٍ بلا بوْصلة"، حكمةٌ قديمة تُنسب لنابليون بونابارت، وتنطبق معانيها بشكل ملحوظ على الحراك الانتخابيّ في تونس. فلم نعد نميّز، في الأيّام الأخيرة، بين إسلاميّين وعلمانيّين ومتشدّدين سابقين في محاربة "الاتجار بالدين"، ومُنكرين، طوال عقود، هويّة التونسيّين في علاقتها بالعروبة والإسلام، مع واجب التحرّي بخصوص هذه التصنيفات التي تخضع، عادة،ً للتجاذب والخصام. ولكنّها، اليوم، سائرة إلى الزوال، بعد أن أصبح الجميع متساوين أمام الله والوطن. فكلّهم متشابهون، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة آناء الليل وأطراف النهار. قبلتهم قرطاج، وبوصلتهم لا تخطئ التقدير.

غير أنّ تلك البوصلة التي يُستدلّ بها للوصول إلى أفئدة الناخبين أصبحت محلّ نزاع وانتزاع بين المتنافسين على منصب الرئاسة والمشرفين على حملاتهم الانتخابيّة. وقد امتدّت تبعات ذلك التنازع إلى أنصارهم الذين اتخذوا من مواقع التواصل الاجتماعيّ ميداناً لإدارة معركتهم، في فضاء حرّ، لا يخضع للضوابط القانونيّة والأخلاقيّة. وفي هذا السياق، تعرّض أغلب المترشّحين للرئاسة إلى ضروب من التهكّم على "فيسبوك" و"تويتر"، حيث نُشرت صور السياسيّين الذين افتتحوا حملاتهم من المقابر والزوايا وقرأوا الفاتحة (لأوّل مرّة في حياتهم)، كما قيل، ترحّماً على أولياء الله الصالحين، وعلى شهداء الوطن. ومن بين هؤلاء مرشّح الجبهة الشعبيّة، حمّة الهمّامي، الذي أسّس حزب العمّال الشيوعيّ قبل ربع قرن. لكنّه قرّر، بعد الثورة، مع قيادات الحزب وهياكله أن يشطب صفة "الشيوعيّ"، مراعاةً لما لوحظ لدى أكثر التونسيّين من ربط آليّ بين الشيوعيّة والعداء للأديان، واحتساباً لانتخاباتٍ أثبتت تجاربها السابقة أنّ عامل الدين قادر على التأثير في نتائجها. لذلك، حرص الهمّامي على إثبات عقيدته، فردّ في منبر تلفزيونيّ بلهجة حادّة على المشكّكين في إسلامه، قائلا "أنا تونسيّ عربيّ مسلم".

وقد تصدّت المنابر التلفزيونيّة لقضيّة التداخل بين الدينيّ والسياسيّ، بعد أن تصاعد الجدل بشأن ما اعتُبرَ "استغلالاً مريباً لرجال الدين" في حملة المنصف المرزوقي، إثر ظهوره مع أحد الأئمّة الدعاة. ويُحاسَب الرئيس المتخلّي بإعلامٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، إلاّ أحصاها، وحمّلها ما تحتمل، وما لا تحتمل من المكاره، إلى حدّ اتهامه بأنّه يتماهى مع الإرهابيّين، على خلفيّة استعماله عبارة "الطاغوت" التي صارت مصطلحاً إرهابيّاً لنعت العسكريّين. قال المرزوقي:" ليس هناك من طاغوت إلاّ الذي طغى في العهد البائد، ويريد أن يرجع الآن ليطغى"، فقدّم لمنافسيه من (فلول) النظام القديم فرصة ثمينة للتنفير منه، معتبرين قوله تحريضاً خطيراً ضدّهم. ويُظلم الرئيس، في أحيان كثيرة، بسبب فصاحته، أو كلّما استعمل كلماتٍ لا تفهمها العامّة، ولا تهضمها الخاصّة. من ذلك إعلانه، في أوّل خطاب له بعد أداء القسم، أنّه سيحمي جميع النساء "المنقّبات والمحجّبات والسافرات"، فقامت الدنيا ولم تقعد، بسبب مفردة "السافرات" التي استهجنت جهلاً بمعانيها.

وبغضّ النظر عن أمثلة أخرى، لا يتّسع المجال لذكرها، تُثبت التجربة الانتخابيّة الحاليّة في تونس نشوء وعيٍ متفاوتٍ لدى النخب السياسيّة، أخضعها للنقد والإصلاح. وأدّى إلى مراجعاتٍ يتعلّق بعضُها بتهذيب اللفظ والمعنى، وتخيُّر ما يحبُّ التونسيّون سماعه، في اتجاه المصالحة مع نمط العيش الذي تعوّدوا عليه من جهة، وباحترام أساس الهويّة الإسلاميّة من جهة أخرى، ومحاولة الاستفادة من العامل الدينيّ بالقدر الذي تسمح به القوانين من جهة ثالثة، حتّى لا تكون تلك المصْلحةُ حكراً على الأحزاب ذات المرجعيّة الدينيّة.

وغنيٌّ عن القول إنّ الحركات الإسلاميّة استفادت من تلك المرجعيّة التي دعّمت شعبيّتها، ومنحتها قاعدة انتخابيّة، لا تتمتّع بها الأحزاب (العلمانيّة) المطالبة بمدنيّة الدولة وإقصاء الدين عن معترك السياسة. لكنّها، وبقدر استفادتها، تضرّرت، في أحيان كثيرة، من سقوط بعض قياداتها في مواقف خطيرة، حوّلتهم إلى دعاة متشدّدين. وقد حدث ذلك، مراراً، في تصريحات، وفي أثناء نقاشات المجلس التأسيسيّ بتدخّلاتٍ موغلةٍ في الوعد والوعيد، جلبت لحركة النهضة، آنذاك، تشكيكاً كثيراً في حقيقة خطابها، أهو سياسيّ مدنيّ أم دينيّ تكفيريّ. والمتأمّل في القوائم التي قدّمتها حركة النهضة لخوض الانتخابات التشريعيّة، يلاحظ، بوضوح، كيف تخلّت عن أسماء كثيرة، وقعت في تلك المزالق. فاستُبعِد، على سبيل المثال، الشيخ الصادق شورو الذي أفزع النوّابَ والإعلاميّين وتونسيّين آخرين كثيرين، حين توعّد "المخرّبين" الذين عطّلوا، باحتجاجاتهم، عجلة الاقتصاد، فخاطبهم بالآية الكريمة: " إنّما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَهُ، ويَسْعَوْنَ في الأرض فساداً، أنْ يقــتّلوا أو يصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفوا من الأرض. ذلك لهم خزيٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم" (المائدة 33).

واحتاجت حركة النهضة، بعد ذلك، إلى وقت طويل، لتنقية خطابها من مظاهر التشدّد التي تجلب لها السخط، وتؤلّب عليها الغاضبين، حتّى أعلن زعيم "النهضة" راشد الغنّوشي، ترحيبه بالعمل مع وزراء زين العابدين بن علي، وأكّد، أخيراً، في برنامج حواريّ في "الجزيرة" رغبته عن توصيف أولئك الوزراء بالفلول، وقال قياساً على حديث شريف:" كلّ من دخل الدستور فهو آمن". وأعلن رفضه القطعيّ الإقصاء وتوريث الأحقاد وأعمال الثأر والانتقام، ضماناً لسلامةِ سفينة الديمقراطيّة التي تبحر بجميع التونسيّين "نحو مستقبل زاهر"، على حدّ قوله، وبعوْن البوصلة التي يهتدي بها للوصول إلى مبتغاه.

ومع ذلك القول الجميل، تبدو الطريق طويلة شاقّة، فيها العواصف والأخطار، والقراصنة الأشرار، والنفوس الأمّارة بالسوء التي تتربّص بالسفينة، لخرقها وإغراق أهلها. وعندئذ، لن تنفع البوصلة وحدها. سنحتاج، بالتأكيد، لملاّحين من خيرة الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، "وما بدّلوا تبديلا".

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.