تبدّى ذلك بوضوح في خطابه وتصريحاته، أمس الأحد، والتي تركت انطباعاً بوجود مقايضة: بيع سلاح مقابل شراء أمن. معادلة حملت ترامب على نقل البندقية من كتف إلى أخرى، ومخاطبة العرب والمسلمين في الرياض، بلغة هادئة، بعيدة عن التعميم الذي طالما اعتمده سابقاً، لوضعهم جميعاً في خانة المتهم بـ"الإرهاب" لحين ثبوت براءتهم.
كما حملته إلى صرف النظر عن موضوع حقوق الإنسان والمرأة، وهو تغافل أثار اعتراضات وتحذيرات، بل اتهامات بأنّه تعمّد ذلك "استرضاء" للمملكة.
"لم يأت ترامب على ذكر حقوق الإنسان والديمقراطية"، قال إليوت أبرامز، المسؤول السابق في وزارة الخارجية والبيت الأبيض. وهو مأخذ تردّد على أكثر من لسان، في سياق الردود الأولية على الزيارة. السناتور الجمهوري جون ماكين الذي بالرغم من ترحيبه بإحياء العلاقة مع دول الخليج، أعرب عن تحفّظه بشأن موضوع الحقوق هذه، قائلاً "نحن بلد فريد وعلينا أن نكون من المدافعين عن قضايا الناس".
الآن تبدّلت لهجة الرئيس فجأة، في خطابه أمام قيادات أكثر من خمسين دولة إسلامية. تحدّث بلغة الشراكة والتلاقي وليس الإملاء، على ما زعم. لكن في الوقت ذاته، ما زالت إدارته تواصل سعيها لتنفيذ قراره بمنع مواطني ست دول إسلامية من دخول أميركا. ومن المتوقع أن يلجأ البيت الأبيض إلى المحكمة العليا قريباً، علّها تكسر قرار محكمة الاستئناف الفدرالية، المرجّح صدوره ضدّ القرار.
خلعه لخطابه الأصلي، جاء نتيجة لدواعي اللحظة الراهنة، وليس استجابة لمستلزمات تحالف استراتيجي تحكمه روابط متينة مشتركة. في أساس هذه الاعتبارات، أنّ الجانب العربي "بحاجة الآن إلى واشنطن، وعلى الإدارة اغتنام الفرصة لتوظيف هذه الحاجة، في خدمة تعزيز التقارب العربي مع إسرائيل"، على ما يرى أحد المراقبين.
ويضيف أنّ "تل أبيب هي التي دفعت بهذا الانفتاح"، الذي تجلّى في الزيارة، وفي اختيار أن تكون الرياض المحطة الأولى فيها، خلافاً للمألوف. تقليدياً يقوم الرئيس الأميركي الجديد، بزيارته الخارجية الأولى إلى واحدة من دول الجوار أو الحلفاء المقربين. لكن ليس هذه المرة.
بيد أن هذا التفسير، لا يختصر وحده استدارة الرئيس ترامب، وإنّما قد يفسّر أحد جوانبها، فيما يبقى الشقّ الأهم في حجم صفقات السلاح والاستثمارات التي جرى التوقيع عليها مع السعودية. وقد انعكس ذلك في تأكيد ترامب من الرياض، على أهمية فرص العمل الأميركية التي تختزنها هذه الاتفاقيات وأرقامها الهائلة. صفقة مالية واعدة سارع الرئيس إلى استثمارها سياسياً في الداخل، لوقف تدهور وضعه الذي هبط إلى مستوى قياسي.
اعتبارات جيو- سياسية وتسليحية وسياسية، تضافرت لإحداث هذا الانعطاف في خطاب الرئيس، والذي لعب فريق من مستشاريه ومعاونيه، ومنهم خارج إدارته، على رأسهم مستشاره لشؤون الأمن القومي مايك فلين، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون، دوراً في تحقيقه.
وكان من أبرز تعبيرات هذا الانعطاف، أنّ ترامب تراجع عن عبارة "الإرهاب الإسلامي الراديكالي"، لما تثيره من حساسيات، إذ تنطوي على ما يوحي وكأنّ الإرهاب مشتقّ من الإسلام، لا سيما أنّ ترامب، كان قد ساق مثل هذه التهمة، مراراً وتكراراً، خلال حملته الانتخابية، مما أعطى شحنة تحريض إضافي وعنيف لشرائح واسعة من قاعدته الانتخابية المحافظة، ساهمت في ترسخ مشاعر العداء لديها تجاه الآخر، لا سيما المسلم.
ساهم في انعطاف ترامب أيضاً، أنّ العودة إلى معادلة ما قبل الرئيس باراك أوباما، في العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، لها دعاتها ومؤيدوها في الكونغرس، كما في أوساط النخبة السياسية، من باب الضرورة لكبح جماح إيران في المنطقة.
ويحرص ترامب على مجاراة هذه القوى لحاجته إليها، لا سيما في موضوع التحقيقات بملف التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وما قد يختزنه من مفاجآت وتداعيات على رئاسته.
ترامب غيّر مواقفه من دون أن يتغيّر، تبدّل مع الصفقات، وتفاخر بإنجازها. له كتاب بعنوان "فن عقد الصفقة"، بنى من خلاله إمبراطورية أعماله. ويبدو أنّه يحاول نقل التجربة إلى البيت الأبيض، بمقاييس وشروط مختلفة، خاصة في مجال الشؤون الدولية.
حتى الآن كان للشق الأول من جولته، وقعه الملحوظ لما أحيط به من أضواء ومراسم غير اعتيادية، ولما رافقه من صفقات وازنة. الامتحان الأصعب في الحلقات التالية. خاصة في زيارته لإسرائيل وبيت لحم. ويبقى بالنهاية، أنّ امتحانه الأكبر يكمن في الملف الروسي. فإنجازاته الخارجية، لو تحقّقت، لن تشفع له إذا ما انتهت التحقيقات، بتثبيت الشبهات في هذا الملف المزروع بالألغام. إنجاز فتح العلاقة مع الصين، لم يشفع للرئيس ريتشارد نيكسون عندما ثبتت عليه تهمة "عرقلة سير العدالة"، في "فضيحة ووترغيت".