صرخة تلميذ محبوس.. أعيته أمه

27 ابريل 2015
المذاكرة حينما يكتئب بسببها الأبناء (Getty)
+ الخط -
جاءني على استحياء يترقب بخطى وجلة لا أكاد أقرأ ملامحه التائهة وسط أحزان جثمت على صدره طيلة سنوات أربع، هي كل تاريخه الدراسي، كانت دمعة قد انحرفت عن مسارها الطبيعي هي بداية شكواه لي، وممن يشتكي؟ إنما يشتكي أمه حبيبة قلبه وندى عمره الغض، أمه التي حولت حجرته الصغيرة إلى سجن كبير يلزمه ليل نهار.

بدأ طاهر ذو السنوات العشر حديثه قائلا: يا خالتي أنقذيني مما أنا فيه، لا أطيق ولا أحتمل هذا النمط من الحياة، أمي تحبسني وإياها في حجرتي طيلة سبع ساعات متواصلة من أجل الاستذكار والمراجعة والحفظ، وغير مسموح لي بمغادرة الحجرة أثناء تلك الساعات الطويلة إلا لقضاء الحاجة أو لتناول وجبة خفيفة على ألا يتعدى ذلك الربع ساعة أو عشر دقائق.

يوم شاق طويل
استطرد طاهر واصفا يومه والذي يبدأ من الساعة السادسة صباحا حيث يستيقظ استعدادا للذهاب إلى المدرسة: إنه يوم طويل وشاق، فأنا أذهب إلى المدرسة الساعة السادسة والنصف صباحا حيث يأتي الباص مبكرا ليأخذ جولته في المدينة يجمع زملائي ليصل بنا في غضون الساعة إلى مدرستي الكبيرة، حقا إنها كبيرة جدا ورغم أنها في نظري سجن كبير كسجن أمي إلا أنها تكون متنفسا لي في بعض الأحيان، يمر الوقت بها حصة بعد حصة ليأتي عذاب (اللفة الثانية) - ويقصد بها جولة حافلة المدرسة والتي تأخذ في بعض الأحيان ساعة ونصف حتى تتخطى جميع عقبات الزحام المروري، وحتى ترسل كل طالب إلى بيته، ثم أعود إلى المنزل وقد اقتربت الساعة من الثالثة عصرا، أدخل إلى المنزل وكلي إحباط وألم، أطيل في تناول وجبة الغداء، فأنا أعرف أن بعدها تبدأ جلسة المذاكرة مع أمي، وإن كنت اسميها جلسة التعذيب.

يقول طاهر: نبدأ في مذاكرة الواجبات المدرسية وحلها، ثم تعطيني أمي الكتاب وتطلب مني أن أحفظه لتقوم هي بدورها في (تسميع) ومراجعة ما حفظت، يمر الوقت ولا أعرف إن كنت قد فهمت حقا ما حفظت أم لا، ولكنني بقدر الإمكان أحاول أن أرضي أمي.
الأمر الأصعب من هذا حينما نبدأ في استذكار مادة باللغة الإنجليزية، حيث تقوم والدتي بتفريغ الكلمات الجديدة وتضعها في سطور متوازية، ثم يأتي دوري في إعادة كتابتها عشر مرات كل كلمة على حدة، ثم تقوم والدتي بمراجعة ذلك معي غيابيا، وإن أخطأت تعيد هي الكرة مرة أخرى، حتى تتقصف وتتكسر أصابعي من كثرة الكتابة والتركيز مع القلم والحروف، علما بأن نظري ضعيف، ولا تسعفني نظارتي الشقية في متابعة بعض السطور والكلمات.

الدرس الخاص
يذاكر طاهر كل يوم ثلاثة مواد مختلفة مع والدته بواقع ساعتين ونصف لكل منها، ثم يأتي بعد ذلك موعد (الدرس الخاص)، حيث ينتقل طاهر من حجرته الصغيرة (محبسه كما يسميه) إلى حجرة الضيافة ليتسلم مدرس اللغة الإنجليزية طاهر فيحشو عقله بالمزيد من الشروح والتفاصيل، وبعد ساعتين تنتهي حصة اللغة الإنجليزية ليصبح حبسه الاحتياطي مع الكتب تسع ساعات متتالية، بعدها يذهب طاهر إلى فراشه يائسا من يومه القادم خائفا من بزوغ فجر يوم جديد.
في اليوم التالي لا يأتي مدرس اللغة الإنجليزية إلى بيت طاهر، فقد استقطعت السيدة جيهان والدة طاهر هذا الوقت من اليوم التالي لحفظ القرآن، بكى طاهر وهو يحكي لي أنه حينما كان في مصر وقبل قدومه إلى دولة قطر، كان يلجأ إلى جده فيعينه قليلا على الخروج من هذه الورطة، أما الآن فليس له من أحد غيري أنا خالته، كي أتوسط بينه وبين أمه فتخفف من أعباء المذاكرة.

المستقبل والخوف
لا شك في أن والدة طاهر تخاف على مستقبل ابنها بالدرجة التي أودت بهما إلى هذه الحال، كنت أظن أنني حينما أحادثها بشأن الصغير أنها سوف تستجيب إلى ذلك وتقلل من عدد ساعات الاستذكار هذه ولو قليلا، فهي سيدة متعلمة وعلى دراية كبيرة بوسائل التعليم الحديثة وطرقها المتعددة، ولكن ما علمته أثناء حديثي معها كان مذهلا، فتقول: "نحن ذاهبون لأداء فريضة العمرة بعون الله، وقد تحددت إجازة التيرم قبل أداء ولدي لامتحان التيرم الثاني، لا ضير سوف آخذ الكتب معنا ونكمل الاستذكار أثناء السفر وأثناء أداء مناسك العمرة..!!"
عجبا لأمرك يا صديقتي حتى في تلك الأيام القليلة في بيت الله الحرام، حيث تتنزل الرحمات وتقبل العبادات لن ترحمي ولدك وفلذة كبدك! ... العلم حقا فريضة على كل مسلم ومسلمة، وتدريب الأبناء على الالتزام أمر جيد، ويلك هل تضيعين على نفسك وعلى أبنائك تلك اللحظات الجميلة، هلا اعتبرتِ تلك الأيام إجازة صغيرة تمنحينها لطفلك الصغير أما ترين جسده الهزيل أو ليس في حاجة إلى الاستجمام والتعطر بجو المسجد الحرام.

حاجز الاضطرار
اندفعت كلماتي نحوها حتى اصطدمت بحاجز كبير وهو (الاضطرار). نعم فقد أكدت لي والدة طاهر أنها مضطرة إلى ذلك وأخرجت لي كتب التلميذ المسكين ومناهجه المتناثرة والمطورة..
تقول الأم القلقة: كانت المناهج في بلدي محددة ومركزة، كنت في بعض الأحيان ألجأ إلى أختي فهي مدرسة مادة الرياضيات أما الآن وبعد مجيئنا إلى بلاد الغربة، فقد اضطررت إلي استذكار الدروس يوميا مع طاهر بنفسي حتى لا يفلت زمام الأمور من بين يدي.
توقفت قليلا عند هذه النقطة.. نقطة انتقال أولادنا من مدارس بسيطة إلى مدارسة دولية أخرى أكثر تعقيدا في بلاد الغربة.. ألا يكفي هذا الضغط على أولادنا وكفاهم من هموم الغربة ما يصيبنا جميعا... ولكن عجبا لأمر الأمهات!


المساهمون