صراع لوبيات في تونس

13 أكتوبر 2015
+ الخط -
تؤكد محاولة اغتيال رئيس النجم الرياضي الساحلي والنائب عن حركة نداء تونس، رضا شرف الدين، في سوسة، صدق كلام للإعلامي التونسي، معز بن غربية، عن معلومات لديه عن جرائم الاغتيال في تونس، وخطورة الصراع بين اللوبيات التي حذر الشعب التونسي منها، فهل محاولة الاغتيال هذه رسالة مشفرة تعقب على رسالته التي بعث بها من سويسرا؟ أم أنّ محاولة الاغتيال تتنزل، في إطار صراع مافيوزي، أكبر من مجرد معز بن غربية ورضا شرف الدين إلى صراع يمسّ المشهد السياسي برمته، وتجربة الانتقال الديمقراطي الناجحة التي تعيشها تونس اليوم؟
أعادت تصريحات بن غربية إثارة الجدل بشأن واقع المشهد الإعلامي في تونس وضرورة إصلاحه، وهو هدف لم يتحقق منذ الثورة، على الرغم من مناداة الجميع به. فالفيديو الذي نشره يطرح، مرة أخرى، وبقوة، العلاقة بين الإعلام والسياسة في تونس في المرحلة الانتقالية، وتوغّل لوبيات في المشهد الإعلامي، في ظلّ طفرة إعلامية، بات مراقبون عديدون يؤكدون أنها تابعة لأذرع مالية وسياسية، شوّهت مناخ الحريات السائد بعد الثورة، وهو خطر صار يدركه الإعلاميون أنفسهم.
على أنّ كلام معز بن غربية، هذه المرة، جعل الجميع يعي خطورة الواقع الإعلامي الراهن وانفلاته، إذ تحول إلى أداة طيّعة في أيدي لوبيات مالية وسياسية نافذة، خصوصاً أنّ هذا الفيديو هدد بكشف أسرار تمسّ ملفات حارقة لشهداء سياسيين وأمنيين، وهو ما أحرج السلطة السياسية التي سارعت بفتح تحقيق، خصوصاً في ظلّ نبرة التحدي التي حملها الفيديو لرئيسي الجمهورية والحكومة، ومطالبتهما "بمصارحة الشعب التونسي، والكف عن الكذب". وقد أومأ بن غربية إلى بعض الأشخاص، وغمز من لوبياتٍ، اعتبرها متورطة في ملف الاغتيالات. وقال إنه يصارح، في هذا الفيديو، الشعب التونسي المغيّب عن الحقيقة، بل إنّه يسرد بدقة تفاصيل موت السياسي طارق المكي، ويجمع خيوط كيفيّة اغتيال كل من محمد البراهمي وسقراط الشارني والمحامي فوزي بن مراد، ما يضفي على كلامه خطورة، غير أن مراقبين يعتبرون أنّ كلام معز بن غربية يقف في حدود معركة داخل مراكز نفوذ ومحاور، تتحكّم في المشهد الإعلامي التونسي، خصوصاً أنّه لم يسمّ أسماء بعينها، ولم يقدّم أدلّته إلى النيابة العمومية، مما أثار حفيظة أرملة محمد البراهمي التي طلبت منه كشف الحقيقة، وعدم إدخال ملف زوجها في لعبة محاور وتصفية حسابات، وكذلك فعل عائلات الشهداء الآخرين.

والإشكال أنّ الجميع في تونس يدركون أن معز بن غربية لا ينطق عن الهوى، وأن كلامه عن تغلغل اللوبيات في ملف الاغتيالات يطرح أكثر من تساؤلٍ، عجزت الدولة عن الإجابة عنه، مثلما عجزت عن وضع حدّ لتغلغل المال في المشهد السياسي التونسي. وقد وجدت الهيئة التعديلية لإصلاح القطاع السمعي البصري نفسها مرتبكة أمام هذه الفوضى الإعلامية، واختراق بعض بارونات المال والسياسة المشهد الإعلامي. وقد دفع هذا الأمر مراقبين عديدين إلى إطلاق صيحة فزع، محذّرين من أنّ كلام معز بن غربية يجب أن يضع الدولة وهيئاتها وجميع مكونات المجتمع المدني أمام ضرورة التصدي العاجل لهذه اللوبيات التي باتت تفسد تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وتهدد بوأدها، وهي لا تزال في المهد، خصوصاً في ظلّ تراخي أجهزة الدولة، وعجزها عن مقاومتها، والتصدي لها.
وفي انتظار ذلك كله، يبدو أنّه ليس ممكناً، بعد اليوم، سكوت الدولة عن صراع هذه المحاور التي تداخل فيها المالي بالسياسي والإعلامي، والتي يبدو أنها استفادت من هشاشة الوضع السياسي ومناخ التجاذب الذي سيطر على تونس، في الفترة الانتقالية، للتغلغل في بعض مفاصل الساحة السياسية في غفلة من بعضهم، وتواطؤ من آخرين وظفوا هذه الشبكات المالية الفاسدة والأذرع الإعلامية في تصفية معارك سياسية، لها خطورتها على ديمقراطية تونس الناشئة. ولعل في إشارة استقالة الوزير لزهر العكرمي إلى وجود عدم إرادة حقيقية لمواجهة الفساد ما يكشف صعوبة مواجهة ظاهرة الفساد وتفشيها.
هل باتت اللحظة مناسبة لكشف هذه الشبكات المالية والإعلامية، وصراعاتها التي انتقلت من الغرف المظلمة إلى الساحات العامة؟ وهل محاولة اغتيال النائب رضا شرف الدين وتهديد معز بن غربية بالتصفية ستدفع بالتسريع في حسم ملفات الاغتيال الحارقة التي طاولت سياسيين وأمنيين؟ أسئلة تبقى معلقة في انتظار الإجابة في ظلّ واقع سياسي راهن مهتزّ ومفتوح على جميع الاحتمالات، خصوصاً أنّ الردود الأولى للأحزاب، وإصرار بعضهم على توظيف محاولة الاغتيال هذه في سياقات تجاذبات وصراعات سياسية سيعقّد مهمة الحكومة في محاربة هذه اللوبيات التي يبدو أنّها توغلت في غفلة من الجميع، وللأسف، يبدو أن الوقت لمواجهتها لم يحن بعد.
يبقى الجميع في انتظار تطورات قضية الإعلامي معز بن غربية الذي سيعود قريباً إلى تونس، ومحاولة اغتيال النائب رضا شرف الدين الأسبوع الماضي، وتداعياتهما على المشهد السياسي في تونس، خصوصاً في ظلّ وجود أزمة هيكلية داخل حزب نداء تونس، الحزب الأغلبي ومطالبات من بعض قياداته بتغيير رئيس الحكومة والتشكيلة الحكومية، وهو ما يهددّ بظهور أزمة سياسية في الأفق، قد تربك تونس في هذه الفترة الحساسة من تاريخها، خصوصاً في ظلّ مطالبة عائلات الشهداء، وجزء مهم من الرأي العام بالكشف عن الحقيقة في ملف الاغتيالات السياسية، والابتعاد عن المناورة، ولعبة المحاور التي باتت بعض اللوبيات المالية والإعلامية والسياسية تدير بها جزءاً من المشهد السياسي التونسي منذ الثورة، وهو مطلب يضع هيبة الدولة وأجهزتها أمام تحد حقيقي، هذه المرة، خصوصاً في ظلّ فشلها المتكرر في المرات السابقة في مواجهة هذا التداخل المرضي بين السياسي والإعلامي في تونس.


avata
شاكر بوعجيلة

باحث في الشؤون السياسية والديبلوماسية، ومكلف بالإعلام برئاسة الجمهورية التونسية سابقاً