تعود شهرة جبران خليل جبران (1883-1931)، الذي صادف يوم أمس الذكرى السابعة والثمانين لرحيله، أساساً إلى مؤلّفه "النبيّ". الكتاب الذي لا يزال يحتلّ مرتبة متقدمةً في الآثار الأكثر مبيعاً في العالم. وقد يشارُ عرَضاً، عندما تُذكر مُؤلفات الرجل، إلى "الأجنحة المتكسّرة" أو"الأرواح المتمرّدة"، فيما يوجد تأليفٌ لم يحظ بنفس هذه الشهرة على قيمته، وهو كتاب "البدائع والطرائف" الذي صاغه سنة 1923.
هذا الكتاب هو في الأصل مجموعة من المقالات القصيرة، بلغ عددها الستة والثلاثين، متباينة الطول، متفاوتة القيمة الأدبية والفكرية. وتدور موضوعاتها حول استعادة لشخصيات محورية في تاريخ الأدب والفكر العربيين، إبان فترتَيْه الكلاسيكية والمُحدثة، مثل شاعر المعرّة "رهين المحبسيْن"، وسلطان العاشقين ابن الفارض، وابن سينا وجرجي زيدان، بالإضافة إلى نصوص فلسفية وأدبية، صيغت نثراً وشعراً، أودعها خفقاتِ قلبه المَكلوم وتأملاته في حياته التي كانت "جزيرةً في بحرٍ من الوحدة والانفراد".
كما يتضمّن الكتاب، إلى جانب ذلك، عديدَ الرسوم التي حبَّرتها ريشة الفنان جبران، أدمجها طي الصفحات، لتجسيد الشخصيات التي يُتَرجم لها، أو لإثراء مقالاته ونَفثاته الشعرية، وذلك في جمع نادرٍ بين ثلاثية النثر الفني، والرسم المرئي واللَّمعة الشعرية، ضمن جمالية واحدة متّحدة.
وأما أسلوب الكاتب في تحبير مقالاته القصيرة هذه، التي أطلق عليها اسم "طرائف في الأدب وبدائع"، فيغلب عليه النفس الشعري الحديث، تجانساً مع دعوته إلى القطع الكلّي مع تكلّس الصور البلاغية، وابتكار المجازات المستغربة، مع تبسيط الاختيارات المعجمية، وامتياحها من الحقل الرومانسي الوجداني، وهو ما أضفى عليها طابع الإيجاز والوضوح وجَعلها تنساب في سلاسة وألقٍ، لا يُقاومان.
وأما طريقته في البرهنة فتعكس اعتماده للمنهج الارتسامي الذي كان سائداً آنذاك في الأوساط الأدبية، قبل أن تنضج مناهج النقد الغربية. وتؤكّد هذه الطريقة تعامله الذاتي الذي طبع كل تفاعلاته مع موضوعات الحياة والسياسة والمجتمع.
وقد يكون الفصل الأطول والأشد تشويقاً هو ذاك الذي صاغه في شكل محاورة، تتألف من سُؤالٍ وجوابٍ حول "مستقبل اللغة العربية"، ولا شكّ في أن السائل شخصية متخيّلة، أجرى الكاتب على لسانها ستة أسئلة، تهدف إلى هيكلة أفكاره والتعبير عنها.
فقد حاول جبران إعطاء إجابات قاطعة، وإن غلب عليها هي الأخرى طابع الشعرية والارتسام، وهي تلخّص موقفه من اللغة العربية، بُعيد الحرب العالمية الأولى، أي في مرحلة حاسمة من تاريخها، إثر تفكّك الدولة العثمانية، ونشأة البلدان العربية الفتيّة التي اعتمدت إحياء اللغة مقوّماً لاستقلالها ونهضتها.
يتعلّق السؤال الأول بعلاقات الضاد بالتفكير الحديث، ويتّصل الثاني بتأثير التمدين الغربي فيها، ويعني به الحضارة المادية وأبنيتها التقنية والمادية. ويتطرّق الموالي إلى تأثير متغيّرات عصره السياسية في تطوّر الضاد وتحوّلاتها الجوهرية. وقد عقد الفقرتين المواليتين إلى إمكانية استخدام الفصحى في المدارس والمعاهد، ثم إلى صراعها مع اللهجات المحكيّة.
وكان موقفه لافتاً من هذه الأخيرة حيث لم يستبعد أن تسيطر العاميات على استخدامات الناس فتصير هي الأخرى لغة مهيمنة، مثل الفصحى، تتوفر على نفس شرعية الوجود.
وختم محاورته بذكر السبل الكفيلة بإحياء اللغة العربية وتتمثّل، في رأيه، في تسلميها إلى الشعراء وإناطة هذا الواجب بهم، فهم وحدهم القادرون على إحيائها وبعث الروح في مفاصلها الميّتة، بفضل ما يمكن أن يضفونه عليها من مُبتَكر الصور ومستحدث المعاني وطرافة العلاقات التي يتخيّلونها بين الكلمات.
تبدو اليوم هذه الإجابات أقرب إلى الرومانسية الذاتية منها إلى الوصف اللساني الدقيق، بيد أنها تستحق الوقوف عليها لما تضمّنته من إشارات ذكية ورؤيوية طريفة.
إلا أنَّ النظرة المقارنة لما قاله جبران، قبل قرن من الزمن، وما يجري في واقع اللغة العربية الآن يفنّد توقعاته، فلم تصبح الدارجة لغة التعبير الرسمية، ولم ينهض الشعراء بالضاد، وإنما الصحافة، كما لا تُدرس العلوم بها في الجامعات والمدارس العليا.
ومع ذلك، تبقى قيمة الكتاب التاريخية والفنية فائقة، فهو يعطي صورة ناصعة عن الأجواء الفكرية السائدة في العقديْن الأوليين من القرن الماضي حيث كان الأدباء يبحثون عن طرائق تجديد اللغة والأدب ويسعون إلى تطوير الوسائل الأسلوبية والموضوعات المطروقة قطعاً مع الثيمات المستهلكة.