حبَّر الكاتب اللبناني جرجي زيدان (1862-1922) اثنتيْن وعشرين رواية "تاريخية"، صدرت جميعُها قبيل مطلع القرن العشرين. وامتاح أحداثَها وشخوصها وأُطرها الزمانية والمكانية من وقائع التاريخ العربي الإسلامي، ابتداءً من عهد النبوّة، وصولاً إلى تفكّك الحكم العثماني.
ولو تناولنا روايته "فتاة القيروان" (1912) مثالاً لتداخل الأجناس الأدبية وتنازعها داخل النص الواحد، لوجدناها متضمنة لكل أساليب التأليف الروائي وخصائصه السردية، بنية ودلالةً.
وربما ساعدنا إمعان النظر فيها على مراجعة مسلماتٍ شائعة حول نشأة الرواية العربية، وزمن ظهورها في تاريخ الأدب العربي، الذي غالباً ما يجري ربطه بمحمد حسين هيكل (1888-1956) وعمله "زينب" (1914)، في حين تؤكد المكونات السردية لـ"فتاة القيروان"، كما في غيرها من روايات زيدان مثل "العباسة أخت الرشيد"، و"عذراء قريش"، و"غادة كربلاء"، أنَّ هذه المقومات متوفرة بشكل مكتمل وناضج.
تقوم أحداث "فتاة القيروان" على قصة لمياء، الحسناء الباسلة، ابنة حمدون، أمير سجلماسة، الذي ضاعت دولته على يَد المعزّ لدين الله الفاطمي وقائده جوهر الصقلي.
أُرسِلت لمياء إلى قصر المعزّ بعد أن طلب قائده جوهر تزويجَها لابنه الحُسين طمعاً في اكتساب ودّ أبيها. غير أنها لم تكن موافقة، لأنها عاشقة لخطيبها سالم، ابن أخ أبي حامد حليف والدها. ومع ذلك، وافق كلاهما على زواجها في مؤامرة للقضاء على المعز وقائده.
لكن لمياء بعد أن عاشرت المعز وزوجتَه، ورأت لطفهما، رَفضت المؤامرة. فأظهر أبو حامد الرضوخ لها، لكنه أضمر إتمام مخطط قتلهم جميعاً في يوم واحد، ثم نفّذه، ولم تنج إلا هي. وبعدها وقعت في يدها رسالة اكتشفت أن سالم لا يحبها وإنما يستغلها هو وعمه لقتل المعز وقائده. فقررت لمياء خدمَةَ المعز والانتقام لوالدها، ولا سيما بعد أن مالت إلى الحسين بن جوهر. فتعاهدت معه على فتح مصر والزواج فيها.
وذهبت إلى الفسطاط لاستقصاء أحوالها وإرسال الأخبار للمعز، وهناك شهدت وفاة كافور الإخشيدي، ودخلت قصر زينب بنت الإخشيد وتقرّبت منها. ولم يتوقف أبو حامد وسالم عن جمع الأموال والرجال لقلب دولة المعزّ غير أنهما فشلا بعدما أفسد الحسين مخططهما واستولى على المال المخبأ. وسار جوهر بجنده إلى مصر، فلما رأى المصريون أنَّه لن يقهر، سلّموا له المدينة. وانتهت الرواية باقتران الحسين ولمياء.
استعدنا هذه الأحداث بشيء من الإطناب لنؤكد أن تاريخ وصول الفاطميين إلى مصر لم يكن سوى ذريعة، بل إنها أحداث باهتة، تكاد تقطع كل صلة بالواقع التاريخي الجاف. وهذا هو الذي لم يفهمه معاصرو زيدان، وحتى بعض معاصرينا، حين اتهموه بتشويه التاريخ الإسلامي وتركيزه على الدسائس والغراميات، بينما اقتصر على المادة التاريخية كإطار، سرعان ما تجاوزه نحو التخييل السردي.
وهذا الأمر يدعونا إلى إعادة قراءة هذا المتن باعتباره البذرة الأولى للرواية العربية، حيث غلب التخييل على الإطار الحدثي، وهيمن الغوص في باطن الشخصيات وأغوارها السيكولوجية، مع حضور للنزعة الرومنسية، مما يضعف الصلة بوقائع التاريخ، ويبطل القراءة الحرفية لها، إذ لم تكن كتب التاريخ المشار إليها في المقدمة سوى فخٍّ للإيهام بالواقعية.
وتجدر استعاضة هذه التاريخانية بمبدأ التناص الذي سيساعد في دراسة العلاقات المتشابكة بين أخبار المؤرخين القدامى، ودراسات المستشرقين التي "تَشَرَّبها" زيدان جميعاً، والتعبير لجوليا كريستيفا، من أجل إنشاء نص مبتكر، يراوح بين تلك النصوص ويغيّرها حسب استراتيجية البناء القصصي.
وتجدر الملاحظة إلى أن منظور التناص يسمح لنا باجتراح البحث في سجلات القول وأساليب الكلام، ضمن منظور دياكروني للغة الضاد، فقد خفّفها زيدان بشكلٍ كبير من قوالب البلاغة التقليدية، وولّد العديد من المفردات والعبارات الجاهزة، كما فسح المجال لتصبح هذه اللغة وصفية أكثر، تركز على تفاصيل الحياة اليومية، وتبتعد عن جمود المحسّنات البديعية التي كانت شائعة آنذاك.
لكن التجديد اللغوي، يقابله في نص زيدان عناصر تقليدية تثقله؛ أبرزها وجود النزعة الحماسية لـ "البطل العظيم الكامل" وهي من دلالات عدم نضج الجهاز السردي في الثقافة العربية وقتها، وعدم القدرة على الغوص في أعماق الشخصيات ما يجعل القارئ الحديث يشعر بالافتعال في سلسلة الأحداث وتفسيرها وهي تتناسل حسب منطق البطولة والظفر.
حقيق بأن تعاد قراءة "فتاة القيروان" وفق منظور جمالية التلقي، التي نظَّر لها المنظّر الأدبي الألماني هانس روبرت ياوس (1921-1997) ودراسة هذا التباعد الحاصل بين آفاق الانتظار وسردية الكاتب، فقد قُيِّمَ منجز جرجي زيدان وفق منظور ديني-تاريخي، يعتبر الماضي مصدراً للتمجيد، ومثال الكمال، فلا يمكن أن يشاب بهذه الدسائس والغراميات.
لقد كتب زيدان نصاً مادته التأريخ ولكن غايته وأسلوبه وإطاره هو السرد الروائي، بما هو خلق تخييلي وتلاعبٌ باللغة وتشويقٌ للقارئ وتسيير للأبطال وتحكم في أقدارهم... حتى وإن صرّح هو بذاته بأنَّ ما كتبه يهدف إلى الاطلاع على أحوال الأمة ومعرفة أحداث الماضي، فحقيق بقارئ اليوم أن يضرب بميثاق القراءة الذي يقترحه عرض الحائط وأن يقترح بندَ الجمالية الذي يعلو على كل تاريخانية.