صدر قديماً: "الفرائد البهية" لـ أحمد كمال

03 يونيو 2017
(أحمد كمال، الجالس على أقصى اليمين، 1908)
+ الخط -

في عام 1885، صدرت الطبعة الأولى من كتاب يحمل عنوان "الفرائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية"، لمن وُصف حسب تقاليد تلك الأيام بأنه "الفهّامة النجيب الفطن اللبيب أحمد أفندي كمال معلم التاريخ واللغة الفرنساوية والبربائية ومترجم الأنتيقة خانة المصرية وناظر مدرستها البهية".

طُبع هذا الكتاب في "مطبعة الفنون والصنائع الميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1303 هـ"، وطواه النسيان إلى درجة أنه حين أصدر عبد المحسن بكير كتابه المعنون "قواعد اللغة المصرية في عصرها الذهبي" في العام 1954 - أي بعد سبعين عاماً تقريباً مرّت على صدور كتاب أحمد كمال - حسبه الوسط العلمي، وحتى صاحبه، الأول من نوعه في اللغة العربية.

لم يكن النسيان الذي طوى "الفرائد البهية" لأحمد كمال (1851-1923) مصادفة، ولا كان تجاهل وتهميش قاموسه الضخم الهيروغليفي/العربي/ الفرنساوي (22 جزءاً)، طيلة ما يقارب ثلاثة أرباع القرن، ثم إصدار جزء واحد منه فقط في العام 2002، مصادفة أيضاً.

كان السبب نهج هذا الباحث غير المسبوق في مضمار دراسة الهيروغليفية، لغة مصر القديمة، القائم على ما تكشّف له خلال دراسته للغة مصر القديمة؛ صلة هذه اللغة بالعربية، إلى درجة أنه توصّل في البداية إلى أن العربية هي أصل اللغة المصرية تلك، ثم، وبعد تزايد الدلائل، توصّل إلى أن المصرية القديمة هي أصل العربية. فأثار حفيظة عددٍ من الأجانب العاملين في حقل الدراسات المصرية، وخاصة ممّن كانوا يحتلّون مناصب في الدوائر الأثرية من مدارس ومتاحف هناك، وبذلوا قصارى جهدهم لعزل مصر عن أي صلة لها بمحيطها العربي.

لقد اعتاد الأوروبيون منذ منتصف القرن التاسع عشر على دراسة علاقة اللغة المصرية القديمة بما أطلقوا عليها تسمية "اللغات السامية"، ولم تقل غالبية هؤلاء باحتمال أن تكون السمات المشتركة بين المصرية ولغات الحضارات المحيطة بمصر سببها وجود أصل مشترك.

وحين افترض كمال وجود أصل مشترك وسعى إلى تأكيده، صدمت رؤيته الجميع، فلم يتقبلوها وناصبوه العداء، وصبّ نائب مدير مصلحة الآثار، جورج دارسي، جام غضبه على هذا المصري العربي الذي تجرّأ وارتكب خطيئة كبرى، بإعطاء العلامات الهيروغليفية مكافئاً من الحروف العربية وتغيير ترتيبها حسب الحاجة (أي القلب والإبدال الذي تتميّز به العربية والذي اعتمده كمال للكشف عن التقارب بين العربية والمصرية القديمة)، واتهمه بأنه يبالغ في إبراز التأثير السامي، بما فيه العربي، على مصر القديمة.

وانتقل هذا الموقف العدائي إلى قاموسه، فلم يسمح الإنكليز والفرنسيون أصحاب النفوذ آنذاك بطباعته، وازداد العداء ضراوة حين لم يستسلم كمال، ودافع عن آرائه، وعن القائمة الطويلة التي أوردها من الكلمات العربية والمشتقة من المصرية، مؤكداً "أن المصرية هي اللغة الأم للعربية".

وواصل نشر مقالات يطبّق فيها ما توصّل إليه على عدة جوانب، من ذلك تفنيده للإدعاء باحتواء القرآن ألفاظاً أعجمية، فتناول الكلمات التي ذكرها الشيخ حمزة فتح الله في كتاب له (1902) باعتبارها أعجمية، وأثبت أنها كلمات مصرية قديمة، أي عربية باعتبار أنهما شيء واحد. ومن ذلك أيضاً مقالة له عنوانها "أصنام العرب وأصلها المصري" المنشورة في "المقتطف" (أيلول/سبتمبر 1921).

في تقديمه لكتابه "الفرائد البهية..."، أشاد أحمد كمال بجهود شامبليون الذي سماه الفاتح لمغلق هذا الباب "حيث عمل أجرومية أخرجت من بحر هذه اللغة دراً"، وبجهود دي روجيه الذي نسج على منواله.

وأضاف "ولما كانت هذه الأجروميات باللغة الأوروباوية، ومرتبة بتراتبيهم الأجنبية، أحببت أن أعمل أجرومية باللغة العربية ليسهل على أبناء وطني تناولها ويخفّ على ألسنتهم تداولها". وكانت هذه الأجرومية خطيئتة الكبرى.

ولكن من بين غالبية الساخطين الأجانب لأسباب سياسية استعمارية، كما يقول الباحث الأميركي د.م. ريد في كتابه "من هم الفراعنة" (2002)، اعتمد الباحث البريطاني والس بدج في كتابه "آلهة المصريين" (1904) على آراء أحمد كمال، وخاصة في ربطه اللغوي بين بعض آلهة وأصنام الجزيرة العربية القديمة مثل "مناة" و"العزى" وغيرها، وبين مثيلاتها المصرية مثل "منيت" و"عزة"، والأخيرة لا زالت متداولة حتى الآن باللفظ اليوناني "إيزس"، كما هو متداول اسم الطائر "الحر" باللفظ اليوناني "حورس"، رغم القراءات الصحيحة التي قدمها علماء من أمثال الفرنسي ف. لوريه منذ أوائل القرن العشرين.

من الواضح أن صاحب كتاب الفرائد البهية والمعجم الضخم الذي لم ينشر حتى الآن، لم يتعرّض ذكره للإهمال فقط، بل وللإبعاد المتعمد عن حقل تعرّض منهجاً ومنتجات إلى استعمار طويل الأمد، وما زال يقاوم كل محاولات تحريره من استعمار المناهج.

دلالات
المساهمون