يُعد مصطلح "الحَضارة"، بالمعنى المعاصر، من مُولَّدات المعجم الثقافي المُبتكر في بداية القرن الماضي. فقد تجاوز دلالته الأصلية التي تنهضُ ضدّاً ومقابلاً للبداوة في الأوساط الصحراوية. ومن أوائل الذين استخدموه بهذا المعنى الأنثروبولوجي المتّسع، المُحيل على جملة الوسائل الثقافية التي يصوغها مجتمعٌ ما لتحقيق امتداده الذهني والعمراني، المفكر المصري أحمد زكي (1867-1934).
فقد أطلق هذا المفهوم مضيفاً إياه إلى "الإسلام"، لا بوصفه ديناً، بل نظاماً من المؤسسات والقيم والمنجزات المادية التي نَظمت المجتمع العربي، الصاعد من "الجاهلية". وبفضل هذا المسعى، تأتَّى له أن يفصل بين الديني والدنيوي في درس تاريخ "الإسلام"، لأنه أدرج أعماله - منذ البداية - ضمن تصور "عِلماني" للتاريخ، ولكن دون التصريح بهذا الاسم، بهدف استعادة موضوعية لتطور الثقافة الإسلامية، من غير اعتبارها تعبيراً عقدياً أو شعائرياً عن الضمير الديني. يقول في مقدمة كتابه: "وأنا إن ذكرتُ الإسلامَ، فإنَّمَا أذكره من حيث هو نظامٌ عمرانيٌّ، لا ديني"، ومن الواضح أنه اقتبس مفهوم "العمران" من أدبيات ابن خلدون (1332-1406)، أبِ السوسيولوجيا المعاصرة.
وكان من ثمرات هذا المنهج العمراني في درس التراث، كتابٌ عنوانه: "الحَضارة الإسلامية"، يتألف من تسع مقالاتٍ، تقع في 84 صفحة، طبع سنة 1909. وكان - في الأصل - سلسلة من المحاضرات، ألقاها "شيخ العروبة" (لقب أحمد زكي) على طلاب الجامعة المصرية الذين قارب عددُهم الخمسمائة، ضمن حراكٍ ثقافي أطلقه أحمد لطفي السيد (1872-1963) لإعادة قراءة التاريخ دون تمجيدٍ.
وفي فصول الكتاب الخمسة، تطرق المؤرخ إلى "أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام"، كما توسّع في وصف هذه الأحوال في الحقبة الجاهلية، وتناول مبحثي: "دولة الروم" و"دولة الفرس" اللتين زالتا بظهور هذا الدين، وهو ما ساعد على فهمٍ أفضل للعلاقة بين هذه الدول الثلاث بعيداً عن التفسيرات الغيبية. وتناول الكاتب انتشار الإسلام والحروب التي تبعته، واهتدى فيه إلى تفسيرات أصيلة عن ازدهار الدولة الأمويّة التي شهدت حضارة الإسلام، في ظلّها، أولى تجلياتها الثقافية.
وأما المنهج الذي اعتمده الكتاب فيقوم أساساً على عدم الخلط بين المعطيات الروحية التي يتضمنها الإسلام، وبين الثقافة المادية التي شيدت بتأثير من هذه الديانة، واعتُبرت التعبير الدنيوي عنها. كما اعتمد على إحياء كتب التراث ومخطوطاته، ولم يكن جلّها متاحاً آنذاك، والاستفادة منها بكثير من الحيطة والتحرّي، ورفض المبالغات. وحاول فهم المبادئ الدينية وتعليلها على ضوء نظرية الدولة، أي الرغبة في إقامة كيان سياسي واقتصادي قوي.
وفي هذا الإطار فسّر آيات الجهاد لا بكونها دعواتٍ إلى إكراه الناس على الدخول في هذا الدين؛ فهذا يتنافى، في رأيه، مع مبادئه الأخلاقية، بل بكونها دعوة واضحة لحفظ الدولة والذبّ عن حوزتها. كما امتاز هذا الكتاب بتركيزه على تأريخ الكتابة والتدوين، كجزء من العملية التاريخية والرؤية التحليلية للواقع التي تقطع مع الثقافة الشفوية.
وقد اقتضى هذا التصوّر الموضوعي تطوير الكتابة باللغة العربية المعاصرة، وتحديث آلياتها المفهومية وحتى أدواتها الإملائية، لتكون قادرة على استخدام المناهج التاريخية المبتكرة، التي لم يعهدها العرب، ضمن الرؤية المقدّسة للتاريخ. وهكذا، ساهم أحمد زكي في تطوير لغة التحقيق العلمي للتراث، وشارك المستشرقين المنهج الفيلولوجي بما فيه من تمحيصٍ للوقائع ومقارناتٍ بين المتون والروايات، واستعراض لمختلف النظريات عنها، لاسيما وأنه كان يتقن لغاتٍ أجنبية عدة، ومنها ترجم كثيراً من الدراسات التاريخية واعتمدها في تطبيق منهجه الذي يعد "تجديدياً" آنذاك.
ولكن، لم يكن ميسوراً لزكي أن يَتحرّر كلياً من قيود الماضي، فقد بَيَّن أن هدف الحضارة الإسلامية كان الحفاظ على قيم "الحرية والمساواة والإخاء وكونية الرسالة"، فيما يشبه الاستنتاج التمجيدي لسماتٍ عامة لثقافة الإسلام. ولذلك، يظل "الحضارة الإسلامية" نموذجاً من نماذج أدبيات النهضة المحجوزة، التي قامت على التحديث عبر التحرر من سلطة التراث والقراءة الموضوعية له، مع حمل همِّ النهضة بالإسلام، إذ كان أحمد زكي متأثراً بطموح الطهطاوي (1801-1873) للتثاقف عبر الترجمة من الألسن الأوروبية، وداعياً إلى النهوض وفق تصوّر جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، ومتأثراً بنداء محمد عبده (1849-1905) إلى إصلاح الإسلام، وتخليص العربية من أثقال البلاغة ومحسناتها البديعية، لتكون لغة بحثٍ علميٍّ وتحقيقٍ عقلي للتاريخ ووقائعه.